يضع التسريب المصور الذي نشرته صحيفة "زمان الوصل" الإلكترونية السورية، الثلاثاء الماضي، والذي احتوى مشاهد قاسية، بإقدام عناصر من قوات أمن وجيش النظام السوري على إحراق جثث لمدنيين قضوا خلال عمليات الدهم للمدن والبلدات السورية، دليلاً جديداً على جرائم هذا النظام. وكانت قد خرجت في السابق الكثير من الاتهامات حول إقدامه على استحداث محارق داخل السجون وغيرها، لحرق جثث مئات المعتقلين لديه على خلفية اندلاع الثورة السورية، ومنها تقرير لوزارة الخارجية الأميركية عن محرقة داخل سجن صيدنايا، الذي يعتبر ثقباً أسود بالنسبة لآلاف المعتقلين الذين تحولوا لأرقام، ولا يعرف مصيرهم إلى اليوم.
سربت "زمان الوصل" مقطعاً مصوراً لجنود يحرقون جثث مدنيين داخل حفر
أما الآن فقد باتت هذه المحارق مثبتة بالأدلة، بعد أن سربت "زمان الوصل" مقطعاً مصوراً لجنود من عناصر النظام يحرقون جثثاً لمدنيين سوريين داخل حفر، في أحد أرياف محافظة درعا جنوب البلاد، والتي انطلقت منها شرارة الثورة ضد نظام بشار الأسد. وذكرت الصحيفة أنها حصلت على مقاطع فيديو مروعة توثق إحراق عناصر المخابرات العسكرية والجوية جثامين معتقلين ما بين عامي 2011 و2013، في إحدى المناطق الصحراوية التابعة لمحافظة درعا. وبحسب المعلومات التي حصلت عليها الصحيفة فإنه كان يتم نقل جثامين المعتقلين، ممن قضوا تحت التعذيب، أو جراء محاكمات ميدانية، في شاحنات متوسطة الحجم ومكشوفة، برفقة عربات أمنية، إلى موقع منعزل بالقرب من بلدة المسمية الواقعة في الريف الشمالي الغربي لمدينة درعا، فيما كانت الجثامين تغطى بأغصان الأشجار. وأشارت إلى أن مجموعات معينة ذات ولاء مطلق بخلفية طائفية، من المخابرات الجوية والعسكرية، كانت تقوم بانتظام بجولات على فروع المخابرات المحيطة بمنطقة المحارق، وعلى الحواجز والقطعات العسكرية، لتجمع ما لديها من جثامين، كي يتم رميها لاحقاً في حفر أعدت مسبقاً، ومن ثم حرقها بعد سكب الوقود على كل جثمان، كما تظهر مقاطع الفيديو. وكان الجيش النظامي يؤمن لهم الدعم اللوجستي، ما يشير إلى أنها عملية منظمة متكررة.
ونوهت الصحيفة إلى أنها تحققت من هوية اثنين من أبرز المشاركين في الجريمة، مشيرة إلى أسمائهما بالأحرف الأولى، وهما الرائد "ف.ق" التابع للأمن العسكري،، والمساعد "م.إ". وتوثق مقاطع الفيديو قيام عناصر الأمن بالتنكيل بجثامين المعتقلين، حيث كان يتم الدوس عليها وشتم أصحابها، ووصفهم بأن هذا "حمصي" وذاك "حموي".
وأحدث نشر المقاطع صدمة جديدة لأهالي الكثير من المعتقلين في سجون النظام، والذين لا يعرف مصير النسبة العظمى منهم. وغير ذلك فإن هذا الدليل بات مستمسكاً قانونياً جديداً بين أيديهم للمطالبة في الأروقة الدولية بالكشف عن مصير أبنائهم. وقالت الصحيفة، مساء الأربعاء الماضي، إن المادة التي نشرتها وملحقاتها بكل ما فيها من معلومات وصور، بمثابة بلاغ رسمي تضعه باسم ملايين الضحايا السوريين بين أيدي القوى الفاعلة في العالم، من حكومات وهيئات ومنظمات ومجالس. وأشارت إلى أنها تبدي استعدادها للتعاون مع أي من هذه الجهات في سبيل تحقيق العدالة وملاحقة المتورطين، وذلك عبر التواصل المباشر مع "رئيس التحرير".
فتحي بيوض: الواضح أن العملية منظمة وممنهجة، وتم تنفيذها بأوامر من جهات عليا داخل النظام
وقال رئيس تحرير "زمان الوصل" فتحي بيوض، لـ"العربي الجديد"، إنه فور نشر المقاطع تواصلت معهم "الآلية الدولية المحايدة والمستقلة" (أنشئت من قبل الأمم المتحدة في 2016 لضمان تحقيق العدالة فيما يتعلق بجرائم الحرب في سورية) للحصول على المادة الخام وأرشفتها. وأضاف: "لدينا تعاون طويل مع الآلية الدولية في الصحيفة، وغير الآلية الدولية تواصلت معنا ثلاث منظمات حقوقية تعمل في أوروبا، طلبت المقاطع لتوثيق الجرائم وفحصها أصولاً، ومن ثم البناء عليها بإجراءاتها القانونية". وأشار إلى أن دورهم كجهة إعلامية، قدمت الدليل، ينتهي مع بدء عمل المؤسسات الحقوقية التي ستتولى موضوع التوثيق ورفع الدعاوى.
وأضاف بيوض أنهم كانوا في الصحيفة كغيرهم، يسمعون عن المحارق دون إيجاد دليل ملموس عليها. وكشف أن "الموضوع بدأ بتحديد أربعة مواقع لمحارق في ريفي دمشق ودرعا ومواقع أخرى يمكن أن نكشف عنها لاحقاً، واستطعنا حتى الآن التأكد من موقع واحد، والذي تمت فيه الجريمة التي نشرنا مقاطع مصورة عنها، وتمكنا من تحديد هويات عدد من المشتركين بارتكاب الجريمة، لكن لم نورد أسماءهم الكاملة لأننا سنقدمها إلى "الآلية الدولية". كما تمكنا من معرفة خلفياتهم، ولأي الجهات ينتمون وتسلسل الأوامر التنفيذية لتطبيق هذه الجريمة. والواضح لدينا حتى الآن أن العملية منظمة وممنهجة، وتم تنفيذها بأوامر من جهات عليا داخل النظام".
وتابع بيوض: "في العامين الأول والثاني على بدء الحراك، كان النظام يقدم على مثل هذه الجرائم بشكل عشوائي، بمعنى كان يحرق جثثاً في الأماكن التي تتم فيها عمليات الدهم والاعتقال، سواء في المنازل أو الساحات على سبيل المثال، ولدينا أدلة على ذلك. وفيما بعد يبدو أن الأمر أصبح ممنهجاً ومنظماً. لا نملك تفسيراً منطقياً للجوء إلى الحرق بعد الوفاة، سوى وقوف الاعتبارات الطائفية خلف هذا الأمر". وكشف أن "الصحيفة تمتلك عدداً كبيراً من الفيديوهات والصور الفوتوغرافية التي تثبت تورط النظام في حرق جثث المدنيين"، منوهاً إلى أنهم "نشروا الجزء الذي يوضح حقيقة الجريمة للإعلام، وأن ما تبقى لديهم من مقاطع، والتي تعتبر بمثابة أدلة، سيتم تقديمها للجهات الحقوقية الفاعلة لتحريك ملف المحاسبة ضد النظام".
أنور البني: تم تقديم المقاطع إلى المدعين العامين في ألمانيا والسويد والنرويج
وحول أمله بتحقيق العدالة من خلال المحاسبة، علق بيوض أنهم كصحافيين سوريين يحاولون تحريك ملف الانتهاكات ليكون هناك توجه قانوني وسياسي ضد النظام لمحاسبته، لكنه اعتبر أن الموضوع يحتاج إلى إرادة دولية. ورأى أن الكثير من الدول، لا سيما الكبرى، كانت تعرف بهذه الانتهاكات حتى قبل هذا التسريب من خلال التوثيقات الخاصة بها، لكنها لم تتحرك. وألمح إلى بيان الخارجية الأميركية حول وجود محرقة في سجن صيدنايا، ورد النظام عليه، وطي الملف وعدم اللجوء لذكره، إلى أن قامت الصحيفة، التي يرأس تحريرها، بنشر المقاطع مؤخراً.
من جهته، أعلن المحامي والحقوقي أنور البني، الفاعل في مجال حقوق الإنسان وملاحقة مرتكبي جرائم الحرب في سورية، أنه تم تقديم المقاطع التي سربتها "زمان الوصل" إلى المدعين العامين في ألمانيا والسويد والنرويج، على أمل رفع دعوى قضائية ضد مرتكبي الجريمة. وأشار البني، في حديث مع "العربي الجديد"، إلى أن هناك "ملفات ودلائل تم تقديمها على فترات متقطعة بحق نحو 60 شخصية من النظام، من بينها بشار وماهر الأسد، أمام المدعين العامين في ألمانيا والسويد والنرويج، ولا تزال التحقيقات مفتوحة. وهذه الأدلة، من صور وفيديوهات، تدعم الادعاء، بالإضافة إلى أن هناك نحو 100 شاهد تقدموا بإفاداتهم في هذه الادعاءات". وأضاف: "كل دليل مهم أمام أي جهة نقدم ادعاء لديها، وخاصة أمام القضاء الألماني الذي قدمنا دعوى لديه ضد بشار الأسد، بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية"، متوقعاً أن تصدر مذكرات توقيف بحق بعض المتهمين، من بينهم بشار الأسد، كما حصل مع المذكرات التي صدرت بحق كل من علي مملوك وجميل الحسن وعبد السلام محمود، وجميعهم من قيادات الأجهزة الأمنية في النظام. واستبعد البني الوصول بهذه الأدلة والملفات الحقوقية إلى المحكمة الجنائية الدولية، المختصة بمحاكمة الأفراد على ارتكابهم جرائم حرب، لكون هذه الأمر يتطلب موافقة مجلس الأمن، ما سيعرض القرار إلى "فيتو" روسي صيني لصالح النظام.