تبدأ اليوم الثلاثاء محاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب في مجلس الشيوخ، على خلفية تحريض أنصاره على اقتحام الكونغرس في مبنى "كابيتول هيل" في 6 يناير/كانون الثاني الماضي، في آخر محاولاته لقلب نتائج الانتخابات الرئاسية، التي أفضت إلى فوز الديمقراطي جو بايدن في 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وكما كان طيلة سنواته الأربع في البيت الأبيض عنواناً لكل شيء غير مسبوق في التاريخ الأميركي، سيكون ترامب الرئيس الأول الذي يُحاكم مرتين أثناء ولايته، وخارجها، والرئيس السابق الأول الذي يسعى المشرّعون لمنعه من الترشح لولاية جديدة مستقبلاً، كما يطمح. وعلى الرغم من انزوائه في منتجع مارالاغو في فلوريدا، إلا أن الرئيس الـ45 للولايات المتحدة، ما زال يتمتع بقاعدة جمهورية صلبة، قد تؤثر على خيارات الأعضاء الجمهوريين في مجلس الشيوخ اليوم. ولم تكن المحاكمة اليوم سوى نتاج سلوك ترامب، الذي بدأ يستشعر هزيمته في الصيف الماضي، مع تأخر استجابة إدارته لتفشي وباء كورونا، مشدّداً على أن التصويت عبر البريد سيُشكّل أكبر حالة تزوير في تاريخ البلاد. وحاول منع هذا النوع من التصويت، بل أعلن فوزه عشية انتهاء الاقتراع، لا فرز الأصوات، في 3 نوفمبر الماضي. مع العلم أن نسب التصويت المرتفعة، خصوصاً عبر البريد، أجّلت صدور النتائج النهائية. وخشي ترامب من احتمال فوز بايدن، تحديداً بعدما أعلنت قناة "فوكس نيوز"، حليفته الإعلامية التقليدية، فوز بايدن في ولاية أريزونا الجمهورية عادة.
الديمقراطيون: الاقتحام محاولة انقلاب على أيدي إرهابيين
ومع توالي انتصارات المرشح الديمقراطي في ولايات متأرجحة وجمهورية، مثل جورجيا ونيفادا، باشر فريق ترامب القانوني، وعلى رأسه رئيس بلدية نيويورك الأسبق، رودي جولياني، سلسلة دعاوى في المحاكم، للطعن في نتيجة الانتخابات، لكن من دون نتيجة. وصبّ ترامب جهوده على جورجيا، التي فاجأته بمنح أصواتها لبايدن. ودعا إلى إعادة فرز الأصوات في الولاية، بإشراف وزير شؤون جورجيا، الجمهوري، براد رافنسبرغر. وتمّ تأكيد فوز بايدن بعد فرز يدوي للأصوات. لكن ترامب لم يتقبّل النتيجة، فدعا إلى فرز آخر، أظهرت نتيجته في 7 ديسمبر/كانون الأول الماضي، فوز بايدن بفارق بلغ 11779 صوتاً. وعلى عكس جميع الرؤساء السابقين، رفض ترامب الاعتراف بهزيمته، تحديداً مع تثبيت المجمع الانتخابي فوز بايدن في 14 ديسمبر الماضي. وباشر التمهيد لخطوة ميدانية، عبر سلسلة تغريدات على "تويتر"، في 19 ديسمبر الماضي، داعياً أنصاره إلى المجيء إلى واشنطن في 6 يناير الماضي، تاريخ تثبيت الكونغرس نتيجة الرئاسيات رسمياً. وتوجّه ترامب إلى جمهوره بتغريدة كتب فيها: "كونوا هناك، ستكون (التظاهرة) صاخبة!". وبعد إعلانه هذا، عاد مجدداً إلى رافنسبرغر، فاتصل به، طالباً منه "العثور على مزيد من الأصوات لقلب النتيجة". وقال "أريد فقط بأن يتم إيجاد 11780 صوتاً"، أي أكثر بصوت واحد من فارق الأصوات لبايدن. لم يلبّ رافنسبرغر طلب ترامب، لاستحالته قانونياً وانتخابياً. حينها، صوّب الرئيس السابق أنظاره نحو نائبه مايك بنس، الرصاصة الأخيرة في جعبة ترامب قضائياً وتشريعياً، ودعاه إلى رفض تثبيت فوز بايدن، لكن بنس ردّ بالقول: "حكمي المدروس هو أن قسمي بدعم الدستور والدفاع عنه يمنعني من المطالبة بسلطة أحادية، لتحديد أي من الأصوات الانتخابية يجب احتسابها وأيها لا ينبغي احتسابها". وتزامن رفض بنس، مع بدء مسيرة أنصار ترامب نحو "كابيتول هيل". وساهم الرئيس السابق في تحريضه المتظاهرين بالقول: "قاتلوا لأجلي، قاتلوا قتال الجحيم". فاقتحمت مجموعة من المتظاهرين المبنى، ما دفع النواب وبنس إلى الفرار خوفاً على حياتهم. ولقي خمسة أشخاص، بينهم شرطي، حتفهم في أعمال العنف. وتأخرت جلسة انعقاد الكونغرس لتثبيت فوز بايدن، إلى حدّ فرض الشرطة والحرس الوطني النظام. أدى الاقتحام إلى بدء خصوم ترامب هجوماً معاكساً وشرساً، قضائياً بقيادة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي عبر منصات "تويتر" و"فيسبوك" و"إنستغرام"، التي حجبت حسابات ترامب، فضلاً عن وسائل الإعلام المنددة باقتحام الكونغرس. وفي 13 يناير الماضي، حكم مجلس النواب بالعزل على ترامب بتهمة التحريض على التمرّد، وصوّت عشرة جمهوريين مع الديمقراطيين دعماً للخطوة. ثم انتقلت المحاكمة المفترض أن تبدأ اليوم في مجلس الشيوخ. وتحتاج إدانة ترامب إلى أصوات أكثر من ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، ما يعني أنه سيتعيّن على 17 جمهورياً الانشقاق عن صفوف باقي أعضاء الحزب والانضمام إلى جميع الديمقراطيين البالغ عددهم 50 سناتوراً، في سيناريو يبدو شبه مستحيل في الوقت الراهن. ويتحصّن الديمقراطيون بعبارة "محاولة انقلاب على أيدي إرهابيين من الداخل" للضغط على مجلس الشيوخ، واصفين اقتحام الكونغرس بأنه "أخطر هجوم على الديمقراطية الأميركية منذ الحرب الأهلية (1861 ـ 1865)". ويسعى الديمقراطيون عبر المحاكمة إلى منع ترامب من تولي أي منصب فيدرالي في المستقبل، في حال توصّلوا إلى إدانة في مجلس الشيوخ. ويتمسك هؤلاء بتغطية شبكات الإعلام العالمية الهجوم على "كابيتول هيل" بشكل مباشر، معززة بآلاف الصور والتسجيلات المصوّرة عن الوقائع، بينها ما أظهر بعض المشاركين وهم يصرّون على أن ترامب "يريدنا هنا". ويشير معارضو ترامب إلى أنه أدى دوراً في الهجوم عبر انتهاك قسمه وتحريض أنصاره. وتكشف مذكرة تلخّص مرافعات الديمقراطيين النبرة التي سيعتمدونها، إذ اتّهموا ترامب بأنه أعد لوضع متفجر وأشعله، ثم سعى لتحقيق مكاسب شخصية من الفوضى التي نجمت عن ذلك. كما يشيرون إلى نيّتهم استخدام العديد من تصريحات ترامب العلنية ضده، بما فيها الخطاب الذي أدلى به في 6 يناير قبيل الاعتداء أمام حشد من أنصاره قرب البيت الأبيض، حيث دعاهم إلى "إظهار قوّتهم". وقال ترامب حينها "لن تستعيدوا بلدنا قط إذا كنتم ضعفاء"، داعياً إياهم إلى "القتال بشراسة"، لينطلق بعدها حشد من مناصريه باتّجاه مقر الكونغرس. أما محامو الدفاع عنه فيركزون على نقطتين هما أن المحاكمة "صورية"، إذ لا يمكن إزاحة ترامب من منصب لم يعد فيه، وأن الهدف من خطابه كان التشكيك في نتائج الانتخابات، بينما لا تندرج تصريحاته في 6 يناير إلا في إطار حرية التعبير التي يحميها الدستور.
في السياق، يستعير السناتور الجمهوري بيل كاسيدي، في حديث لشبكة "أن.بي.سي" الأميركية، بأيام الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، مشيراً إلى أنه "لو حصل هذا الأمر في الاتحاد السوفييتي، لكان وصف بأنه محاكمة صورية". ويمكن أن تمكّن هذه المقاربة، أي أن ترامب بات مواطناً عادياً لا رئيساً في البيت الأبيض، فريق الدفاع عنه وأعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريين من تجنّب الدفاع عن التغريدات والانتقادات اللاذعة الصادرة عن ترامب قبيل أعمال العنف، والتركيز على أن من يحاكم هو "مواطن عادي". لكن هؤلاء يصطدمون بتصلّب بيلوسي، التي شكّلت فريقاً من تسعة ديمقراطيين لإدارة إجراءات العزل وتوجيه التهم لترامب، وتصرّ على ضرورة إجراء المحاكمة، معتبرة أن الفشل في إدانته سيضر بالديمقراطية الأميركية. حتى أنها اعتبرت، يوم الخميس الماضي، أنه "سنرى ما إذا سيكون مجلس الشيوخ شجاعاً أو جباناً". وفي حين لم تتّضح بعد معالم المحاكمة، يرفض فريق الرئيس السابق دعوة الديمقراطيين له للإدلاء بشهادته. من جهتهم، لا يرغب الجمهوريون الذين يبدو أنهم منقسمون حيال مستقبل الحزب، في مناقشة مسألة المحاكمة المثيرة للجدل طويلاً.
من الصعب انشقاق 17 جمهورياً في مجلس الشيوخ لعزل ترامب
وفي أحدث مؤشر إلى الانقسام، دان فرع ولاية وايومينغ في الحزب الجمهوري، يوم السبت الماضي، النائبة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس الأسبق ديك تشيني، التي تعد ثالث أرفع شخصية حزبية في مجلس النواب بسبب تأييدها عزل ترامب، وطالب باستقالتها. ويفضّل العديد من الديمقراطيين طي الصفحة سريعاً لإفساح المجال أمام الكونغرس لإقرار مقترحات لبايدن تحظى بأولوية، على غرار خطة إنقاذ اقتصادي ضخمة لمواجهة تداعيات كورونا. وعلى الرغم من احتمال نجاته من المحاكمة، إلا أن ترامب سيخسر الكثير. وفي حين لا يزال ترامب يتمتّع بتأييد قوي في صفوف قاعدته الانتخابية، قد يكون الهجوم خفّض شعبيته، وهو أمر لا يصب في مصلحة الرئيس السابق البالغ 74 عاماً والذي تروق له فكرة الترشّح مجددا للرئاسة في 2024. وأظهر استطلاع جديد أجراه مركز "إيبسوس" بالتعاون مع شبكة "ايه.بي.سي" الإخبارية، أن التأييد الشعبي لإدانة ترامب أقوى هذه المرة مما كان عليه خلال محاكمته الأولى. وخلص الاستطلاع إلى تأييد 56 في المائة من الأميركيين لإدانته، مقابل معارضة 43 في المائة. من جهتهم، يواصل المدّعون الفيدراليون مطاردة مقتحمي "كابيتول هيل"، ومنهم جيسيكا ماري واتكينز، التي بدأت التحضير للاقتحام بعد فترة قصيرة من خسارة ترامب، عبر تشكيلها مليشيا، وبدئها تجنيد العشرات. ويكشف المدّعون عن رسالة وجّهتها واتكينز إلى أحد المشاركين معها، في 20 ديسمبر الماضي، ومفادها أن "ترامب يريد أن يأتي جميع الوطنيين"، إلى "كابيتول هيل". سيركّز المدّعون على دوافع واتكينز وغيرها، تحديداً لحظة مباشرتهم التخطيط للاقتحام. وسيفتح المدّعون ملف أحد مؤسسي "كيو أنون" في بيتسبرغ ـ كنساس، كينيث غرايسون، الذي وجّه رسالة إلى صديق له، جاء فيها: "سأكون هناك من أجل حضور أعظم احتفال، حين يقلب بنس نتيجة الانتخابات في مجلس الشيوخ، أو في حال طلب منا ترامب اقتحام العاصمة". واتُهم غرايسون بالتعدي على مبنى "كابيتول هيل" ووجهت إليه تهم خمس جنايات.
(العربي الجديد، فرانس برس)