تلقى الشعب الفلسطيني وجميع فصائله الوطنية والإسلامية صدمة كبيرة بعد قرار قيادة السلطة الفلسطينية بالتراجع عن قراراتها السابقة، بتجميد العمل بكافة الاتفاقيات الموقعة مع حكومات إسرائيل، ومن ضمنها التنسيق الأمني والمدني ورفض استلام أموال الضرائب الفلسطينية (المقاصة)، التي تجبيها سلطات الاحتلال الاسرائيلي وتعيد تحويلها للسلطة الفلسطينية، والتي تغطي أكثر من ثلثي نفقات ومصروفات السلطة، بما فيها رواتب حوالي 200 ألف فلسطيني موظفين ومتقاعدين.
تزامنت قرارات السلطة الأخيرة مع ارتفاع منسوب التفاؤل لدى شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني بقرب التوصل للمصالحة الوطنية الفلسطينية الداخلية، وطي صفحة الانقسام المعيبة التي دخلت عامها الرابع عشر، والتي أدت إلى نتائج مدمرة، سواء على الفعل الوطني الفلسطيني، ومدى ثقة المجتمع الفلسطيني بمنظومته السياسية والحزبية، أو مدى أهمية القضية الفلسطينية على المستوى الإقليمي والدولي، والتي أدت إلى تراجع واضح في الاهتمام الإقليمي والدولي بالقضية الفلسطينية ومدى هيبة واحترام القيادات الفلسطينية، والتي تراجعت كثيرا، ما فتح المجال وشجع بعض الأنظمة العربية على الذهاب باتجاه اتفاقيات تطبيع وتحالف مع إسرائيل، محاولين التذرع وتبرير ذلك بعلاقة الفلسطينيين أنفسهم مع إسرائيل، أو الانقسام الفلسطيني بين حركتي فتح وحماس، والذي انعكس بشكل سلبي واضح على المشروع الوطني التحرري، وتركيز الحركتين على الحفاظ على سلطتيهما، سواء حركة فتح في دفاعها عن سلطتها في الضفة، أو دفاع حماس عن سلطتها في غزة، وهو ما شكل ضربة قوية للحركة الوطنية الفلسطينية، وأدى إلى تحسين بيئة إسرائيل الإقليمية والدولية.
أتت قرارات السلطة المتعجلة بينما كانت وفود حركتي حماس وفتح تقطع شوطا مهما في إنهاء ملف الانقسام، والوصول لبرنامج عمل سياسي وطني مشترك يطاول إصلاح منظمة التحرير وانضمام كل الفصائل إليه، وتحويل دور السلطة الوظيفي من خدماتي يصب في مصلحة الاحتلال، إلى داعم ومساند للمشروع التحرري الفلسطيني، ودعم وتثبيت الوجود الفلسطيني على أرض وطنه، في الوقت الذي أصبح المستقبل الوطني الفلسطيني برمته في خطر شديد، بعد قطع الإدارة الأميركية المنتهية ولايتها بزعامة الرئيس دونالد ترامب شوطا كبيرا في تصفية القضية الفلسطينية، بعد البدء في تطبيق صفقة ترامب التي تنسجم بشكل كامل مع الخطوط العريضة لليمين الديني والقومي الإسرائيلي.
شهدت الفترة الماضية تطورا كبيرا على صعيد المحاولات الفلسطينية لإنهاء الانقسام وإجراء المصالحة الوطنية الفلسطينية، والتي بدأت بالمؤتمر الصحافي لجبريل الرجوب، أمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح، وصالح العاروي، نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والذي رأى فيه الكثيرون بداية لمرحلة جديدة من العلاقة بين الحركتين، من حيث التراجع الواضح للغة الشتائم والسباب والمناكفات بين متحدثي الحركتين، ولأول مرة أصبحت وسائل الإعلام الرسمية الفلسطينية التي تتبع للسلطة والرئيس أبو مازن تستضيف على شاشاتها متحدثين من حركة حماس، وكذلك وسائل الإعلام التابعة لحركة حماس، بعد أن كانت وسائل إعلام الحركتين الأداة الرئيسة والأهم في شتم وتشويه كل حركة للأخرى. وقد تبع المؤتمر الصحافي للرجوب والعاروري اجتماع الأمناء العامين للفصائل الفلسطينية في رام وبيروت برئاسة الرئيس محمود عباس، وحضور قادة حركتي حماس والجهاد، بمن فيهم رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، كما قادة الفصائل الفلسطينية الأخرى.
واجهت الفصائل الفلسطينية قرارات السلطة الأخيرة بالرفض والإدانة والمطالبة بالعدول عنها، حتى أن الفصائل الفلسطينية الصغيرة اليسارية التي تتشارك مع حركة فتح في السلطة لم تستطع بلع أو هضم القرارات، لما تشكله من انهيار كبير على مستوى الموقف الوطني والسياسي الرسمي، في الوقت الذي بني الكثيرون الأمل على أن يؤدي استمرار صمود السلطة وقيادتها بمقاطعة إسرائيل أمنيا ومدنيا، إلى التخلي عن مسيرة أوسلو التي ألحقت الضرر الكبير بوحدة الشعب الفلسطيني، ووحدة نظامه السياسي، وأضعفت القضية الفلسطينية كثيرا، كما أن رفض جميع الفصائل لقرار السلطة بالعودة لمسار الاتصالات الأمنية والمدنية مع إسرائيل، يعكس خشية كبيرة على مستقبل ما تبقى من مؤسسات منظمة التحرير، سواء اللجنة التنفيذية أو المجلسين الوطني والمركزي، التي أجمع ممثلوها على قرار التخلي عن التزام المنظمة والسلطة باتفاقيات أوسلو، والذي تأخر عشرين عاما، حيث انتهت فترة اتفاقيات أوسلو في العام 1999، فيما تتم العودة للعلاقة مع إسرائيل دون استشارتهم، سواء كمؤسسات قيادية للشعب الفلسطينية ولمنظمة التحرير، أو كقيادات في تلك المؤسسات القيادية.
قرار قيادة السلطة بالعودة للاتصالات مع إسرائيل دون انتفاء الأسباب التي أدت لتلك القرارات، ورغما عن المؤسسات التي أصدرت قرارات التخلي والمقاطعة، ستكون له تداعيات كبيرة على مكانة وهيبة منظمة التحرير والسلطة وقيادتها أمام العدو قبل الصديق، لأنها تخلت بهذا القرار عن آخر ورقة ضغط مهمة بيدها كان من الممكن أن تستخدمها مستقبلا في حال مطالبة الإدارة الأميركية القادمة برئاسة جو بإيدن بالعودة للمفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، لا أن تعود القيادة وهي مجردة من كل أوراق القوة.
كان واضحا أن مشروع المصالحة الوطنية الفلسطينية سيكون أول ضحايا قرار قيادة السلطة الفلسطينية بعودة العلاقات مع إسرائيل لسابق عهدها، لتعذر الحفاظ على العلاقة مع إسرائيل والإدارة الأميركية، في الوقت الذي تتعامل فيه سلطة الحكم الذاتي المنبثقة من اتفاقية أوسلو مع حركة حماس وجناحها العسكري كجزء طبيعي مهم من مكونات الشعب الفلسطيني ونظامه السياسي وحركته الوطنية، لأن تجربة سنوات السلطة الماضية تؤكد أن إسرائيل لم ولن تقبل ذلك وسيعود رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وكل القادة الإسرائيليين لتخيير السلطة بين العلاقة مع إسرائيل واستمرار قبول السلطة ودعمها، أو استمرار علاقة السلطة مع حركة حماس. وأثبتت التجارب الماضية تراجع ملف المصالحة أمام العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل كما الأنظمة العربية الداعمة للسياسات الأميركية في المنطقة والتي تتبنى مواقف مناهضة لحركة حماس كما للإخوان المسلمين.
لم يقف قرار القيادة المتسرعة عند عودة العلاقات مع إسرائيل، بل اتبعته بإعادة سفيري فلسطين لكل من الإمارات والبحرين، بعد استدعائهما قبل أسابيع ردا على توقيع هذين النظامين اتفاقيات تطبيع مع إسرائيل. ففي الوقت الذي كان وزير خارجية البحرين يعقد اجتماعا مع وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، فاجأت قيادة السلطة الجميع بقرارها دون مقدمات، ودون العودة لمؤسسات منظمة التحرير التي يفترض أن تكون مرجعية كل ما له علاقة بالسياسة. وقد يفهم البعض إعادة السفيرين الفلسطينيين لهاتين الدولتين اللتين تناصبان حركة حماس العداء وتعتبرانها إرهابية، أنه تفضيل للبقاء في هذا المحور على حساب التقارب والمصالحة مع حركة حماس، وهو ما سيعيد العلاقة بين حركتي فتح وحماس إلى مرحلة المناكفات والشتائم والردح التي لم ينجم عنها سوى المزيد من التراجع والانحسار الوطني، وزيادة عزوف الفلسطينيين عن الشأن الوطني العام، وتوغل إسرائيل بعد التراجع الواضح لمكانة وأهمية القضية الفلسطينية إقليميا ودوليا، والذي يتحمل مسؤوليته أيضا قادة الانقسام حين انزلقوا في الصراعات الداخلية، ما أدى لاستنزاف الحالة الوطنية الفلسطينية، فيما إسرائيل تقطف ثمار صراعات فتح وحماس الداخلية.
واضح أن الإدارة الأميركية المقبلة لن تكون شبيهة بإدارة ترامب التي تبنت مواقف اليمين المتطرف في إسرائيل، ولكن من الصعب العودة عن القرارات التي اتخذها دونالد ترامب في السنوات الأربع الأخيرة، والتي كرست الاحتلال والاستيطان، إلا بنضال فلسطيني واستخدام كل الأوراق المتاحة، ولكن وبشكل معاكس لمنطق الأمور، أو الحسابات السياسية والتفاوضية أن تتخلى السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير عن ورقة التنسيق الأمني والتخلي عن الاتفاقيات قبيل وصول الإدارة، وعدم الانتظار لاستلامها مهامها، إلا إذا اعتقدت القيادة الفلسطينية أن الإدارة الأميركية المقبلة ستكون مؤيدة للحقوق الفلسطينية، وأنها قد تصطدم مع إسرائيل واللوبيات اليهودية والجماعات الضاغطة، وهذا يعكس جهلا كبيرا، حيث يتفق الحزبان الديمقراطي والجمهوري على مصلحة إسرائيل، بينما يختلفان على كيفية خدمتها، حيث صدرت قرارات السلطة بالعودة للعلاقات الأمنية والمدنية مع إسرائيل في وقت كانت تنتظر المنطقة والعالم وصول الرئيس الديمقراطي الجديد جو بإيدن إلى البيت الأبيض، واحتمال العودة للسياسة الأميركية التقليدية تجاه القضية الفلسطينية والصراع الإسرائيلي العربي، والعمل على إعادة الطرفين للمفاوضات بعدما صعبت سياسات الإدارة الأميركية الترامبية أي احتمال للعودة للمسار السياسي، بسبب إزاحة القدس من المفاوضات بعد نقل سفارة الولايات المتحدة إليها، والاعتراف بالاستيطان والعمل على حل وتفكيك وكالة الغوث كمقدمة لإسقاط وإلغاء حق عودة اللاجئين الفلسطينيين.
بالرغم من أن مواقف الحزب الديمقراطي الأميركي تجاه الإخوان المسلمين عموما، وحركة حماس خصوصا، لا تختلف كثيرا عن رؤية ومواقف الحزب الجمهوري، إلا أن الحزب الجمهوري أخيرا، بعد سيطرة التيار الديني اليميني الإنجيلي، تبنى رؤية اليمين الاستيطاني اليهودي في مواقفه تجاه حماس والإخوان المسلمين، حيث يرى فيهم نسخة طبق الأصل عن القاعدة وداعش، لا بل إن إدارة ترامب وحكومة نتنياهو تعتبران حماس والإخوان المسلمين أشد خطرا من القاعدة وداعش، وكان من ضمن القراءات لمواقف الإدارة الأميركية القادمة هي احتواء الإخوان المسلمين على قاعدة أنهم التنظيم الأكبر والأقوى في العالم العربي والإسلامي ولا يمكن القضاء عليهم، وبالتالي مصلحة الولايات المتحدة الأميركية تتمثل باحتوائهم وغض البصر عن وصولهم للحكم في المنطقة، كمدخل لتوريطهم في أعباء الحكم والمسؤولية والتي قد تؤدي لإحداث تغيير في مواقفهم، وتحديدا تجاه إسرائيل.
قرارات السلطة الأخيرة، سواء المتعلقة بإعادة العلاقات والاتصالات الأمنية والمدنية مع إسرائيل، أو إعادة السفيرين للإمارات والبحرين واللتين تتشاركان الموقف الإسرائيلي تجاه الإخوان المسلمين وحركة حماس، ستؤدي تلك القرارات إلى تراجع مساعي المصالحة، رغم تأكيد الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وأمين سر اللجنة المركزية لحركة فتح قبل أيام، على تمسك فتح والسلطة بإغلاق صفحة الانقسام وتحقيق المصالحة والشراكة في البرنامج السياسي، حيث من الصعب الاستمرار على المسارين، لأنه لا يمكن لهما أن ينسجما أو أن يلتقيا، ومن الصعب المواءمة بين مساري المصالحة والشراكة مع حماس والجهاد من جهة، والتنسيق الأمني مع إسرائيل من الجهة الأخرى.
يبدو أن قيادة السلطة شعرت أن استمرار القطيعة مع إسرائيل، والتقارب مع حركة حماس، من الممكن أن يؤثر على مسألة بقاء السلطة، مع احتمال تغيير القيادة الفلسطينية الحالية، ما حدا بالسلطة للتراجع المفاجئ والصادم عن قراراتها، والتي أحدثت ردة فعل سلبية كبيره في أوساط الرأي العام الفلسطيني بشتى مكوناته، وهو ما يشير إلى أن الحفاظ على السلطة بشكلها ودورها الحالي بات هدفا للقيادة الفلسطينية، والمطلوب الحفاظ عليها، بالتالي أعطت القيادة الأولوية للعودة لاتفاق أوسلو، والذي بالتأكيد سيؤثر سلبا على موضوع المصالحة.
اعتقد الكثيرون أن مرحلة الرئيس الأميركي القادم جو بإيدن قد تشكل فرصة لتحقيق المصالحة الفلسطينية، بعد أن أضاع الفلسطينيون الفرصة الذهبية لتحقيق المصالحة في فترة ترامب، بعدما أعلن الحرب على كل الفلسطينيين. أما وبعد القرارات الأخيرة لقيادة السلطة الفلسطينية، فلم يعد ملف المصالحة وحده في خطر، بل المشروع التحرري الوطني، كما المشروع الديمقراطي وبناء مؤسسات نزيهة وعادلة، تحترم حقوق الإنسان وحريته في التعبير والحياة السياسية التعددية، وبتنا أمام مرحلة أخرى من إدامة عمر سلطتي الحكم الإداري الذاتي في الضفة وغزة، والذي ما كان ليحدث لولا اختفاء الفصائل الوطنية، وتخليها عن دورها الوطني، واختبائها خلف الجماهير، وأصبحت الحالة الفلسطينية بكل مكوناتها تمر بظروف كارثية، لا يمكن مواجهتها والخروج منها بدون هزة عنيفة داخل حركة فتح، وباقي الفصائل الوطنية والإسلامية.