تقف الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً في موقف لا تُحسد عليه، عقب التحولات المتسارعة في خريطة السيطرة والنفوذ في مأرب شمالي شرق البلاد، ليكون عليها من الآن وصاعداً حصد عواقب أدائها الهش في إدارة المعركة على المستويات كافة؛ عسكرياً وسياسياً واقتصادياً. وعلى مدار عامين، ظلّت مأرب مسرحاً لمعركة فاصلة بين الحكومة اليمنية وجماعة الحوثيين، حيث رمى الطرفان بكل أوراقهما في داخلها، نظراً للأهمية الاستراتيجية التي تحتلها كآخر معاقل الحكومة الشرعية في مناطق شمال اليمن، وأهم مواردها الاقتصادية، فيما ينظر لها المجتمع الدولي على أنها خط النهاية المحتمل لحرب مدمرة اندلعت لحظة الانقلاب الحوثي، أواخر سبتمبر/أيلول 2014.
استفادت الحكومة اليمنية من استبسال قبائل مأرب في الدفاع عن أراضيهم كتفاً بكتف بجانب قوات الجيش، لكن الخلافات التي برزت على السطح أخيراً، والمكاسب الحوثية السريعة التي انتهت بالسيطرة على الشريط الجنوبي للمحافظة، الممتد من رحبة وماهلية وحريب وصولاً إلى العبدية والجوبة، يجعل الحكومة في مأزق حقيقي.
يرى مراقبون أن سقوط مأرب، متى ما تم، سيكون نتيجة طبيعية للأداء الباهت الذي انتهجته "الشرعية"
ويرى مراقبون أن سقوط مأرب، متى ما تم، سيكون نتيجة طبيعية للأداء الباهت الذي انتهجته "الشرعية" خلال السنوات الماضية في إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها والتي تحرر الكثير منها في أولى سنوات الحرب، قبل أن يتم التفريط فيها تباعاً. ولن تجد "الشرعية" أي موطئ قدم لها في محافظات شمال اليمن، في ظلّ وقوع معظم المحافظات الجنوبية، والتي لم تسلم هي الأخرى من الأطماع الحوثية، تحت سيطرة "المجلس الانتقالي الجنوبي" الانفصالي.
أكثر السيناريوهات كارثية، وفقاً لخبراء، يكمن في اختلال ميزان القوى، إذ من المتوقع، في حال سيطرة الحوثيين على كامل محافظة مأرب، أن تتغيّر المعادلة وميزان القوى بشكل جذري، بما في ذلك المواقف الإقليمية والدولية التي ستجد نفسها مضطرة للتعامل مع حالة جديدة. يدرك الحوثيون أهمية هذا الهدف، وفي الدعوة الأخيرة التي وجهها القيادي في الجماعة رئيس ما يسمى بـ"المجلس السياسي الأعلى"، مهدي المشاط، لـ"التحالف العربي" الذي تقوده السعودية، بخصوص عملية السلام، كان الرجل يشدد على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار "التطورات الأخيرة والمتسارعة"، في إشارة إلى مكاسبهم في مأرب وقبلها شبوة والبيضاء.
في المقابل، تبدو الحكومة اليمنية مغيّبة عن الواقع، غير مدركة للمخاطر المحدقة بها. ويوم الجمعة الماضي، ظهر رئيس الوزراء معين عبد الملك، في تصريحات صحافية، يقلل من خطورة المكاسب الأخيرة للحوثيين، عندما أشار إلى أن مأرب "تجاوزت مراحل أصعب في 2015، عندما تمكنت من دحر الحوثيين إلى خارج المحافظة". وعلى الرغم من إقراره بوجود ما وصفها بـ"بعض الإشكاليات وعلى رأسها الشقاق" في معسكر الشرعية، إلا أنّ رئيس الحكومة اليمنية يرفض الإقرار بالعجز في إدارة المعركة أو الدعوة إلى تدارك الأمور، خصوصاً في ظل متغيّرات جوهرية طغت على المعركة مع الحوثيين.
وفي موازاة التفوّق العسكري الكبير للحوثيين؛ سواء في إدخال الصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة إلى خط المعركة، واكتساب مزيد من الخبرات والمقاتلين عما كان عليه الأمر في 2015، ساهم الأداء الرتيب للحكومة الشرعية وغيابها عن المشهد، في ضرب معنويات الجيش والمقاومة، كما تغلغلت الخلافات العميقة وبرزت الأجندات الخاصة.
الانتصارات الحوثية تشكل ضربة معنوية لقبائل مأرب
شرخ في معسكر الشرعية
تستخدم جماعة الحوثيين الانقسامات داخل صفوف المعسكر المناهض لها كسلاح فتاك لإسقاط الحكومة اليمنية من الداخل. وبعد فشلها في تحقيق أهدافها طيلة العامين الماضيين داخل مأرب، جراء صلابة موقف القبائل وإجماعها على أن المليشيات الحوثية هي العدو الأول، يبدو أن خطة الجماعة قد نجحت بعض الشيء أخيراً. أدّت قبائل مأرب دوراً محورياً في التصدي للهجمات الحوثية وتعزيز الجيش اليمني عبر ما يسمى بالمقاومة الشعبية. وعلى الرغم من التضحيات الهائلة، إلا أن الشعور بالخذلان من طريقة إدارة المعركة، بدأ يتسلل إلى صفوف القبائل. ووفقاً لمصادر قبلية تحدثت لـ"العربي الجديد"، فقد اتسعت الفجوة بشكل أكبر خلال الشهرين الماضيين بين الطرفين، وتحديداً منذ تحويل الحوثيين دفة المعركة من الأطراف الغربية في صرواح إلى الأطراف الجنوبية في رحبة، حيث معاقل قبيلة مراد، التي ينحدر منها القائد العسكري المخضرم، مفرح بحيبح. قامت قبائل مراد بسحب غالبية مقاتليها من جبهات مأرب الأخرى إلى مناطقها للدفاع عن معاقلها، وهو ما خلق ثغرة كبيرة في محور بيحان، استغلها الحوثيون للانقضاض على ثلاث مديريات شرقي شبوة، قبل الانقضاض على مديريتي حريب وأجزاء واسعة من الجوبة ثم العبدية. وتزايدت نقمة القبائل على قيادة "الشرعية" عقب الحصار الذي فرضته جماعة الحوثيين أخيراً على مديرية العبدية لنحو 4 أسابيع، وعدم قيام ألوية الجيش الوطني المرابط داخل مأرب، بأي تحركات جادة لفك هذا الحصار عن نحو ألفي مقاتل، عرفوا بتصديهم للهجمات الحوثية ومقاومتهم بأسلحة تقليدية.
وخلال الأيام الماضية، كان عدد من الناشطين المنحدرين من قبيلة مراد في مأرب، يوجهون اتهامات لاذعة وغير مسبوقة لقيادة الحكومة، ويطالبون ببناء جيش على أسس وطنية بعيداً عن النفوذ المناطقي والتجاذب الحزبي، وسط تلميحات باستحواذ حزب "التجمع اليمني للإصلاح" على مقاليد الإدارة، وإقصاء غير الموالين للحزب الإسلامي. وحاول وزير الدفاع اليمني، محمد المقدشي، ردم الفجوة الحاصلة مع قبائل مراد، بزيارة إلى جبهات القتال في مديرية جبل مراد، منتصف الأسبوع الماضي، ومن هناك كانت المخاوف الحكومية واضحة من مهادنة القبائل للحوثيين، خصوصاً بعد الاجتياح السلس لمديريات بيحان وحريب وأجزاء من الجوبة. وحذر الوزير اليمني من الوعود التي تمنحها جماعة الحوثيين للقبائل بالأمان في حال عدم قتالهم، وقال إن "المليشيات تحمل الحقد لكل اليمنيين، ولا تفرّق في جرائمها بين صديق وعدو أو حليف، ولم تسلم من إرهابها دول الجوار والمنطقة".
وحتى الآن، لا تزال السيناريوهات غامضة بشأن مستقبل معركة مأرب، ولا يُعرف ما إذا كان "التحالف العربي" هو المؤجج الخفي للنقمة القبلية على طريقة إدارة المعركة، بهدف إزاحة حزب الإصلاح من المشهد أم لا. لكن ما هو واضح، أن الانتصارات الحوثية تشكل ضربة معنوية لقبائل مأرب كافة بدون استثناء. على الرغم من مساحتها الصغيرة وموقعها الجغرافي البعيد عن حقول النفط والغاز، إلا أنّ الخذلان الذي تعرضت له مديرية العبدية بعد صمودها في مواجهة الحصار والهجمات الحوثية طيلة 4 أسابيع، حمل دلالات كبيرة، جعلت سقوطها بمثابة رصاصة أخرى في نعش القوات الحكومية وقيادات الشرعية بشكل عام. ووفقاً لخبراء، فمن شأن سقوط العبدية أن يشكل ضربة معنوية لقبائل مأرب التي استبسلت في التصدي للهجوم الحوثي، خصوصاً في ظل الأعمال الانتقامية المحتملة التي تلجأ إليها المليشيات في العادة عند تحقيق مكاسب في مناطق الخصوم، بنسف منازلهم والإمعان في إذلالهم وكسر شوكتهم بمصادرة كافة ممتلكاتهم.
سقوط مأرب قد يغيّر المواقف الدولية من الملف اليمني
ويؤكد نائب المدير التنفيذي لـ"مركز صنعاء للدراسات الاستراتيجية"، أسامة الروحاني، هذا الأمر، ويرى أن أي تقدم للحوثيين في مأرب، بمثابة "انكسار معنوي للناس والقبيلة"، خصوصاً عندما يصاحب ذلك عدم وضوح في طريقة إدارة "الشرعية" للمعركة، الأمر الذي يخلق مساحة كبيرة لعدم الثقة في هذه المرجعية، ويعني ذلك استمرار سقوط كثير من المناطق.
ويقول الروحاني، وهو خبير في مجال السلم وحل النزاعات، في حديث مع "العربي الجديد"، إنه "في مقابل انتحارية ونظامية الحوثيين في الهجوم، هناك عشوائية في إدارة المعركة من قبل الشرعية، فضلاً عن خذلانها للقبائل، وعدم ارتقاء أدائها إلى مستوى الحدث والأهمية لهذه المعركة المصيرية".
ويرجع الباحث نفسه الانتكاسة الأخيرة في العبدية وما سبقها، إلى "خلل في طبيعة العلاقة بين القبيلة والحكومة الشرعية، ووجود أجندات مختلفة، فالحكومة لم ترفد قبائل العبدية بالإمدادات، ولم تحرك أي لواء عسكري لفك الحصار عنها والذي استمر لأسابيع، فيما حزب الإصلاح، المسيطر الأكبر داخل مأرب، لديه أجندة تتعارض مع مصالح الآخرين، وهو ما ساهم في اهتزاز الثقة وانقسام الصفوف". ويرى الروحاني أن سقوط مأرب "قد يغيّر المعادلة والمواقف الدولية من الملف اليمني، إذ ستكون مداخل التفاوض مختلفة، بعد أن تصبح جماعة الحوثيين صاحبة اليد العليا على الطاولة وذات الصوت الأقوى".
ارتباك التحالف
خلافاً للشقاق الحاصل في معسكر الشرعية، يبرز ارتباك التحالف الذي تقوده السعودية، كسبب آخر للانتكاسات المتلاحقة التي حصلت في مأرب والمحافظات المجاورة لها. فقد عاش التحالف خلال العام الأخير من عملياته في اليمن، حالة غير مسبوقة من الارتباك، وخلافاً لإقالة قائد القوات المشتركة، الأمير فهد بن تركي من منصبه مطلع سبتمبر/أيلول 2020، وفشل تطبيق اتفاق الرياض (وُقع في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، بين الحكومة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي) جنوباً، كانت جماعة الحوثيين تشن أعنف الهجمات في العمق السعودي.
شهدت العلاقة بين قوات التحالف والجيش اليمني حالة من عدم الثقة
وشهدت العلاقة بين قوات التحالف والجيش اليمني حالة من عدم الثقة، وتحديداً منذ سقوط مديرية نهم في صنعاء، ومحافظة الجوف، في أيدي الحوثيين مطلع العام الماضي. وعلى الرغم من تقليص الدعم اللوجيستي بشكل شبه كلي، إلا أن المقاتلات الحربية التابعة للتحالف حافظت على حضورها المعتاد، من خلال شنّ غارات يومية لكبح الزحف الحوثي نحو مأرب، وذلك من صرواح غرباً وحتى رحبة جنوباً.
ووفقاً لمصادر عسكرية حكومية تحدثت لـ"العربي الجديد"، فقد أدى تقليص التحالف للدعم المقدم للجيش اليمني، وكذلك انقطاع مرتبات الجنود لأشهر عدة، إلى عدم تكافؤ المعركة مع الحوثيين، الذين يتفوقون بالصواريخ الباليستية والطائرات المسيرة. وذكرت المصادر، أن قوات الجيش الوطني "اضطرت طيلة الأشهر الماضية إلى شراء ذخائر الدبابات والرصاص من السوق السوداء مع توقف دعم التحالف، ما جعلها تخوض المعركة بأسلحة متواضعة". وأرجعت المصادر سلوك التحالف إلى تحفّظه على طريقة إدارة المعركة التي يمسك بزمامها نائب الرئيس، علي محسن الأحمر، المتهم بتغذية الخلافات داخل معسكر الشرعية، من خلال تهميش قيادات عسكرية وقبلية، فضلاً عن اتهامات لقيادات الجيش اليمني في مأرب بالفساد وصناعة جيش من الأسماء الوهمية.
ومع التقدم السريع للحوثيين في جبهات جنوب مأرب، حاول التحالف تدارك الأمر، حيث ظهر عدد من الأسلحة النوعية، منها مدافع "هاوتزر" التي تمتلكها القوات البرية السعودية، في مديرية الجوبة جنوبي مأرب، لصد هجمات الحوثيين. كما عاد التحالف لنشر تفاصيل يومية عن عدد الضربات التي يشنها ضد المليشيات الحوثية، خصوصاً التي كانت تحاصر مديرية العبدية. وواظب "التحالف" أخيراً، على نشر حصيلة يومية لعدد الغارات ضد الحوثيين في جبهات مأرب، التي كان يتجاوز معدلها اليومي الـ30 غارة، وسط حديث عن مئات القتلى في صفوف عناصر الجماعة. واعتبرت مصادر عسكرية أن حرص التحالف على إذاعة منجزاته يومياً، هو رسالة للشرعية في المقام الأول، بأنه هو من يتصدر المواجهة ويقود المعركة الكاملة من الجو، وخصوصاً بعد تعرضه لانتقادات واسعة بخذلان مأرب وتركها فريسة للحوثيين.
ولا يُعرف ما هي استراتيجية التحالف خلال الفترة المقبلة. وبالتزامن مع سقوط مديرية العبدية في قبضة الحوثيين، كان العاهل السعودي، سلمان بن عبد العزيز، يصدر أمراً ملكياً بتعيين الفريق الركن، مطلق الأزيمع، قائداً للقوات المشتركة، وذلك بعد أكثر من 13 شهراً من تكليفه بالقيام بعمل قائد القوات المشتركة للتحالف في اليمن بديلاً عن الأمير المقال بشبهات فساد مالي، فهد بن تركي.