لا تقتصر دلالات ما فعله نظام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مجمع اللغة العربية، باستبعاد رئيسه المنتخب الشيخ حسن الشافعي، على رغبة عارمة في إحكام السيطرة على جميع الهيئات ذات الطابع الرسمي في البلاد، حتى إذا كانت غير مؤثرة على حياة المواطنين اليومية ومصالحهم. ومن ضمن هذه الهيئات "مجمع الخالدين"، الذي تهتم بأمره فقط شريحة يمكن اعتبارها ضئيلة من نخبة المثقفين المصريين، باعتباره هيئة ذات طابع علمي بحت، وليست له إسهامات مباشرة في الواقع العملي. وتمتد دلالات هذه الفضيحة، إلى تكريس النظام صورته أمام الرأي العام والمراقبين في الداخل والخارج، بكونه لا يكترث أبداً بالقواعد الدستورية أو القانونية، بما فيها الموضوعة من قبله، إذا كان الهدف من المخالفة الصريحة هو الخدمة المباشرة لمصلحة النظام، أو التنكيل بالمعارضين وقمعهم.
تناصب سلطة السيسي الشيخ حسن الشافعي العداء، باعتباره من المحسوبين على تيار الإسلام السياسي
ومنذ انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، تناصب سلطة السيسي الشيخ حسن الشافعي العداء، باعتباره من المحسوبين على تيار الإسلام السياسي، على الرغم من أن علاقته التنظيمية بـ"الإخوان المسلمين" قديمة، وانتهت حسب قوله في مطلع الستينيات. إلا أن مواقف الرجل الجريئة بانتقاد الانقلاب، والاختلاف مع تأييد شيخ الأزهر أحمد الطيب له، على الرغم من العلاقة الطيبة التي تجمعهما، وإدانته العلنية لمذبحة اعتصامي رابعة والنهضة، كلّها أسباب أدت لاتخاذ السيسي وأذرعه الحكومية والإعلامية موقفاً مبدئياً ضده، محاولين إقصاءه من مناصبه بشتى الطرق. ومن الأسباب أيضاً صداقة الشافعي لعدد من رموز المجتمع الثقافي الإسلامي، وعضويته وإسهاماته الكبيرة في الجمعية التأسيسية لإعداد دستور 2012، ومشاركته في صياغة النص الخاص بمرجعية الأزهر لحسم الخلافات الدينية.
واستطاع نظام السيسي حرمان الشافعي من منصبه الأكاديمي في جامعة القاهرة، بقرار صدر من رئيسها السابق الموالي للنظام جابر نصار في العام 2015، بحجة عدم جواز الجمع بين الأستاذية في كلّية دار العلوم ورئاسة مجمع اللغة العربية، على الرغم من عدم وجود أي نصّ يحظر ذلك. كما استطاع النظام في العام نفسه إجبار شيخ الأزهر على استبعاد الشافعي من منصب مدير المكتب الفني للمشيخة، وهو منصب كان الشافعي يكرس له وقته وجهده وعلمه دون مقابل، بحسب بيان صدر من الأزهر ردّاً على هجوم إعلامي شرس تعرض له الشيخ لتبرير فصله من جامعة القاهرة.
وبقي الشافعي شوكة في حلق النظام برئاسته لمجمع اللغة العربية، فهو منتخب بأكثرية كبيرة كأول أزهري يتولى هذا المنصب في فبراير/شباط 2012، ويحظى بشعبية بين أعضاء المجمع. وفي العام 2016، تمّ تجديد انتخاب الشافعي بالإجماع، وأشرف خلال تلك الفترة على إعداد مسودة كاملة لقانون حماية اللغة العربية، توقفت عند مرحلة التصديق من وزارة التعليم العالي المشرفة على المجمع. كما أصرّ على أن تصدر مخرجات الاجتماع السنوي للمجمع مشفوعة بقرارات وزارية، لنشرها في ملحق الجريدة الرسمية "الوقائع المصرية"، لتسجيل مواقف المجمع المختلفة ومقترحاته لحماية اللغة ودعمها إعلامياً ووظيفياً واجتماعياً.
وطوال تلك الفترة، لم تثر في المجمع أزمة حول استمرار الشافعي في رئاسته إذا أعاد الأعضاء انتخابه وفقاً للقانون، إلا مناوشات بسيطة من نحو ربع الأعضاء الذين طالبوا بتجديد الدماء، ودفعوا بالناقد الأدبي صلاح فضل في مواجهة الشافعي، فعجز عن الفوز. بل إن الشافعي فاز مرتين في الانتخابات التي أجريت في العام الحالي، وليس مرة واحدة. ففي انتخابات فبراير/شباط الماضي، حصل على 27 صوتاً، وعندما لم يعتمد وزير التعليم العالي خالد عبد الغفار النتيجة بحجة وقوع خطأ مادي في الانتخابات، أعيد الاقتراع في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ليحصل فضل هذه المرة على تسعة أصوات مقابل 17 للشافعي.
ويحتج فضل، الخاسر الذي عيّنه وزير التعليم العالي قائماً بأعمال رئيس المجمع منذ أيام، بأن الدستور الحالي يحظر بقاء أي مسؤول في موقعه لأكثر من فترتين. ولكن بمطالعة هذا الدستور، الذي شارك الشافعي في وضعه وشارك فضل في تعديله عندما كان عضواً في لجنة الخمسين عام 2013 بعد الانقلاب، يُلاحظ عدم وجود نصّ يحظر بقاء أي مسؤول منتخب في موقعه لأكثر من فترتين إلا رئيس الجمهورية، وحتى هذا الأمر لم يعد قائماً بعد تعديلات السيسي في إبريل/نيسان 2019.
بل إن قانون مجمع اللغة العربية الصادر في مارس/آذار 1982، نصّ في مادته العاشرة على اعتماد رئيس الجمهورية لانتخاب رئيس المجمع (وهي سلطة مفوض فيها حالياً وزير التعليم العالي) كإجراء تصديق، مكمل لعملية إصدار القرار فقط، من دون أن يمتد لإمكانية تعديل إرادة مجلس المجمع الذي انعقد للتصويت بشكل سرّي. وتبعاً لذلك، لا يتضمن القانون على الإطلاق أي نصوص تنظم حالة رفض السلطة التنفيذية المختصة (سواء رئيس الجمهورية أو وزير التعليم العالي) اعتماد نتيجة الانتخاب، ولا يسمح القانون أيضاً بتعيين رئيس للمجمع بشكل مباشر كبديل لعملية الانتخاب.
وفي ظلّ القانون الحالي، أعيد انتخاب رئيسين للمجمع أكثر من مرتين، هما إبراهيم بيومي مدكور (توفي عام 1995 وهو رئيس المجمع) وشوقي ضيف (توفي عام 2005 وهو رئيس المجمع)، بينما لم يسعف القدر تاليهما محمود حافظ دنيا الذي وافته المنية قبل إكمال ولايته الثانية.
لا يوجد نصّ دستوري يحظر بقاء أي مسؤول منتخب في موقعه لأكثر من فترتين إلا رئيس الجمهورية
وهنا تكمن الأزمة التي تصعّب الإجراءات الحالية على نظام السيسي ووزير التعليم العالي خالد عبد الغفار ومستشاريه. فلا يوجد أي سبب دستوري أو قانوني أو منطقي للامتناع عن اعتماد فوز الشافعي، وهو ما انعكس في خطاب تكليف فضل بالقيام بأعمال رئيس المجمع، والذي خلا من أي سند قانوني، ولم يشر إلى الانتخابات التي أجريت على نحو صحيح، وكأنه يتجاهل وقوعها.
وكشفت مصادر في مجلس الوزراء لـ"العربي الجديد"، أن فريقاً من المستشارين القانونيين يعكف الآن على تلبية ثلاثة مطالب أساسية من دائرة السيسي مرتبطة بهذه القضية. الأول هو تبرير قرار تعيين فضل قائماً بالأعمال، وهو ما سينحصر غالباً في ادعاء خطأ إجراءات الانتخاب للخطأ المادي الواقع في اقتراع فبراير، وعدم سلامة إعادة الاقتراع في أكتوبر، على الرغم من أن الوزارة امتنعت طوال هذه الفترة عن التدخل لتعديل الوضع القانوني. والمطلب الثاني يعتبر أخطر من الأول على مستقبل المجمع، ويتمثل في إيجاد سند قانوني لتعيين فضل - أو غيره- كرئيس للمجمع من دون انتخاب، وفرضه على مجلس المجمع، أي تحويل الوضع المؤقت الحالي (القائم بالأعمال) إلى وضع دائم، بالمخالفة لقانون المجمع. أما المطلب الثالث، فهو إعداد قانون جديد للمجمع، يضمن تدخل الحكومة لفرض إرادتها على مجلس المجمع في حال مخالفته توجهاتها، وكذلك فرض إرادة الحكومة على المجلس في تعيين الأعضاء الجدد، بحيث يكون لرئيس الجمهورية أو وزير التعليم العالي حصة من المعينين الجدد، ما يمهد لتغيير تشكيل المجمع وتوازناته الحالية واتجاهات أعضائه.
وحصيلة المطلبين الثاني والثالث تصب في تحويل المجمع، ذي الطبيعة العلمية البحتة، إلى المصير الذي لاقته الهيئات القضائية بعد تعديلات قوانينها في يوليو/تموز 2017، عندما غيّر السيسي نظام انتخاب رؤسائها، ليتمكن من التحكم فيهم واستبعاد من لا يشاء توليته من القضاة. وقد أتبع السيسي ذلك بتعديل النصوص الدستورية الخاصة بجميع تلك الهيئات، وكذلك المحكمة الدستورية العليا، التي أصبح اختيار رئيسها ورئيس هيئة مفوضيها وأعضائها الجدد بيد رئيس الجمهورية لا جمعيتها العمومية.
ورجّحت المصادر أن تتحول أزمة المجمع إلى الميدان القضائي قريباً، إذ يتيح القانون بوضعه الحالي للشافعي ولأعضاء المجمع إقامة دعوى ضد قرار عدم اعتماد الانتخابات وتعيين قائم بالأعمال. وأشارت المصادر إلى أن القانون الجديد للمجمع لن يسري كقاعدة عامة على الأزمة الحالية، ولكنه قد يتضمن مواد تحصن ما سيترتب على الأزمة من تعيين قائم بالأعمال أو رئيس جديد للمجمع.
وعقب تعيينه قائماً بالأعمال، ادعى فضل أنه "كان يواجه تربيطات إخوانية داخل مجلس المجمع"، ما أغضب معظم أعضاء المجلس الذين لم يرحبوا بقرار تعيينه. وذكر بعض الأعضاء في نقاشات جرت خلال الأيام الماضية في مقر المجمع، أنهم يفكرون في تقديم الاستقالة، لكن الشافعي طلب منهم الهدوء والاستمرار، بحسب مصدر من الأعضاء تحدث لـ"العربي الجديد".
وواصل فضل استفزازاته في تصريحات صحافية عديدة أطلقها قبل أيام، قال فيها إن وزير التعليم العالي خالد عبد الغفار قرّر تكليفه بمنصب القائم بأعمال رئيس المجمع لحين تصويب الأخطاء وتعديل اللائحة والقوانين الخاصة في مجمع الخالدين. وأضاف أن من مهام منصبه الجديد "وضع خطة لتطوير المجمع، لأنه في الفترة الأخيرة اتسم بصبغة دينية، وليست مدنية، وأن هدفه إعادة الأدباء والمفكرين مرة أخرى إلى المجمع الذي كان يجتمع فيه طه حسين والعقاد، وكبار المفكرين والمثقفين المصريين، وذلك بعدما أصبح يخلو من الأدباء في السنوات الأخيرة، ما أدى إلى ضموره"، على حد تعبيره.