لا تؤثر إعادة اعتقال أبطال ملحمة جلبوع الستة على تداعياتها ودلالاتها الجوهرية في ما يتعلق بصراع الإرادات بين الشعب الفلسطيني والاحتلال الإسرائيلي، وتآكل قدرة ردع هذا الأخير، وانهيار الصورة الأسطورية التي سعى لتقديمها عن نفسه خلال العقود السابقة تحديداً في السنوات الأخيرة وحاول استخدامها لفرض الهزيمة المعنوية على الفلسطينيين والعرب، ثم كطُعم للتطبيع مع بعض الدول العربية وإحداث اختراق في العلاقة مع دول أخرى عبر العالم.
مثّل نجاح أبطال نفق الحرية في الفرار من سجن جلبوع الأكثر تحصيناً في إسرائيل، ولا شك، انتصاراً كبيراً للأسرى الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال وتغلب إرادتهم على إرادته وتفوقهم في صراع العقول والإبداع على سجانيهم، كما أقرّ حرفياً الرئيس السابق لمصلحة السجون الإسرائيلية.
بأدوات بسيطة نجح الأبطال في تجاوز الاحتياطات الأمنية المهووسة داخل السجون وخارجها من دون مساعدة من الداخل ولا حتى من الخارج، والتغلّب عملياً على إجراءات كلّفتها مليارات الدولارات "سنوياً" تنفقها مصلحة السجون ووكالات الأمن والاستخبارات الأخرى، ما أدى إلى صدمة وحتى هزّة شديدة في إسرائيل تشبه صدمة وهزّة حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973. والمفارقة التاريخية ربما أن وزير الأمن الداخلي الحالي والمسؤول عن مصلحة السجون هو عومر بارليف، ابن الجنرال حاييم بارليف رئيس الأركان السابق ومخطط ومنفذ الخط الدفاعي الشهير المسمى باسمه الذي حطمته إرادة وتضحيات الجيش المصري مدعوماً من الجيوش العربية الحليفة الأخرى في الحرب الأخيرة بين الدول العربية وإسرائيل.
من هذه الزاوية تحديداً أدى نجاح الأسرى في الهروب إلى انتشار موجة عارمة من الكبرياء والعزة في صفوف الفلسطينيين، والمقابل الإحباط واليأس في صفوف الإسرائيليين، ورغم النجاح في إعادة اعتقالهم إلا أن ذلك لم يحجب الفشل الإسرائيلي المدمّر، وحقيقة أن الشعب الفلسطيني عصي على الانكسار والاستسلام.
ملحمة جلبوع أعادت كذلك فرض قضية الأسرى على جدول الأعمال، وفي كل المستويات السياسية والإعلامية والشعبية خاصة بعد النجاح في الإفراج عن الأسيرة أنهار الديك كي تضع مولودها "علاء "بين أهلها وذويها والضغط للإفراج عن الأسيرة إسراء جعابيص أو على الأقل توفير العلاج المناسب والضروري لها، ونجاح العديد من الأسرى الإداريين عبر سلاح الأمعاء الخاوية في فرض إرادتهم على سجّانيهم.
أما محاولة قمع الأسرى والتنكيل بهم، وفرض إجراءات عقابية جماعية بحقهم خاصة أسرى حركة الجهاد الإسلامي لاستعادة قدرة الردع المتآكلة، فلم تنجح وارتد الأمر سلبياً على الاحتلال وأجهزته إثر عناد وصمود هائل وأسطوري معتاد من الأسرى، وتضامن شعبي وسياسي وإعلامي واسع معهم، والإعلان عن الاستنفار في السجون، والتهديد بإضراب عام وشامل عن الطعام مع فعاليات جماهيرية مساندة، ما أجهض خطط الاحتلال الذي فشل في استعادة قدرة الردع تجاه الأسرى وتجاه الشعب الفلسطيني بشكل عام.
في السياق نفسه، زادت ملحمة جلبوع من إصرار المقاومة في غزة على التوصل إلى صفقة تبادل أسرى عادلة "بوساطة مصرية" تكفل الإفراج عن أكبر عدد ممكن منهم خاصة النساء والمرضى والشيوخ وكبار السنّ وأصحاب المحكوميات الطويلة، بمن فيهم أبطال نفق الحرية الذين أعيد اعتقالهم في فعل إسرائيلي لا ينال بالتأكيد من جوهر ودلالة ما فعلوه.
الهروب الكبير والأسطوري دفع الرياح أيضاً في أشرعة المقاومة بشكل عام ويمكن إضافته بالتأكيد إلى مسار هبّة القدس ومعركة سيفها أيار/ مايو الماضي، حيث تأكيد حقيقة تآكل قدرة الردع الإسرائيلية واستعادة ثقة الشعب الفلسطيني بنفسه وقدرته على التصدي للاحتلال ومنعه من فرض إرادته وتصوراته وخططه لا في القدس والضفة الغربية ولا في غزة ولا تجاه الأسرى أيضاً.
واستطراداً، تحدث الإعلام الإسرائيلي عن تصاعد في فعاليات وعمليات المقاومة خلال الأسبوعين الماضيين في الضفة وغزة بما يشمل التظاهرات وإلقاء الحجارة وعبوات المولوتوف وإطلاق النار في الضفة وحتى الصواريخ من غزة باتجاه المستوطنات وجيش الاحتلال.
وعلى سبيل المثال، فقد تحدث تقرير حقوقي بالضفة الغربية عن 640 عملاً مقاوماً في 123 بؤرة مواجهة بمناطق متفرقة بالضفة الغربية بما في ذلك فعاليات الإرباك الليلي ضد البؤر الاستيطانية ونقاط الحراسة العسكرية لها.
وهنا أيضاً، يمكن وضع ملحمة جلبوع في نفس سياق إطلاق صواريخ المقاومة خلال المعركة الأخيرة على القدس المحتلة المدينة التي يعتبرها الاحتلال الإسرائيلي عاصمته الأبدية، بينما كل جرائم القتل والتنكيل في غزة والضفة بما فيها القدس نفسها، وقتل مئات المدنيين العُزَّل وحتى شطب أسر كاملة من السجل المدني الفلسطيني لا ولن تغير الحقائق والوقائع على الأرض أو تعيد قدرة الردع الإسرائيلية وتدفع الفلسطينيين للخضوع والاستسلام.
كما هبّة القدس ومعركة سيفها بدت قيادة السلطة الفلسطينية أيضاً في ملحمة جلبوع منزوية ومنفصلة عن الواقع عاجزة عن مساعدة الأسرى أو إغاثتهم وباستثناء عبارات إنشائية وفضفاضة لم تحرك ساكناً، بل على العكس واصلت التنسيق الأمني والمالي وتلقى محاولات التنفس الصناعي الإسرائيلية – والغربية - وكأن شيئاً لم يكن.
بالمقابل، كانت الملحمة مناسبة لتكريس وحدة الشعب الفلسطيني وتجاوز الانقسامات السياسية والجغرافية في ظل حالة الكبرياء والالتفاف الواسع حول قضية الأسرى، واستخلاص العِبَر المناسبة من إنجاز أبطال نفق الحرية. أما مبادرة الاحتلال إلى بثّ الإشاعات والتسريبات فلم تنجح في بثّ الفتنة والتفرقة بين الفلسطينيين، خاصة في الأراضي المحتلة عام 1948، وبدا واضحاً انخراطهم عبر التظاهرات والعمل السياسي والقانوني والإعلامي الداعم للأسرى ولا تقل عن ذلك أهمية القراءات الإسرائيلية القائلة بانخراط حتمي وأكيد لعرب 48 في أي هبّة أو انتفاضة فلسطينية قادمة.
كما هبّة القدس ومعركة سيفها، أدت ملحمة جلبوع إلى دفع الرياح في أشرعة التعاطف مع الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وانتصار روايته كشعب يناضل ويجاهد بكل الوسائل لاستعادة حريته رغم سعي بعض الأنظمة للانفصال عنها بحجة مصالح قطرية فئوية ضيقة وقاصرة.
الملحمة أدت كذلك إلى تفريغ الرياح من أشرعة التطبيع، وهدمت الأسس التي قامت عليها العملية لجهة تجاوز القضية الفلسطينية وتحجيم التعاطف الشعبي العربي الواسع معها. وفي المقابل، ترويج الأوهام عن إسرائيل كدولة خارقة يتم العمل على الاستفادة من قدراتها المزعومة خاصة الأمنية التي عرّاها أبطال نفق الحرية.
في كل الأحوال، أكد أبطال نفق الحرية بفعلهم الأسطوري ضعف الاحتلال ووهم ما يقال عنه ويتم الترويج له، وعموماً فإن أفضل تلخيص لملحمة جلبوع جاء من المحلل الإسرائيلي البارز غال بيرغر الذي كتب على موقع هيئة البثّ الإسرائيلية الرسمية "كان" – الأحد 19 أيلول/ سبتمبر- أن إعادة اعتقال الأحرار الستة لم تصنع أسطورة إسرائيلية مقابل نقيضتها الفلسطينية، وبالتأكيد لم تغطِّ على ما أسماه الفشل المدمّر والإخفاق، ودلالات الملحمة فلسطينياً وإسرائيلياً أيضاً..