لم يغب على مر العقود الأربعة الماضية اسم وادي بانشير من المشهد الأفغاني، إذ يحضر دوما في واجهة الأحداث بصورة أو بأخرى، وبحكم طبيعته الجغرافية، لم تتمكن أي قوة من الدخول والسيطرة عليه بقوة السلاح، غير أن حركة "طالبان" غيرت تلك المعادلة واستطاعت أن تسيطر على جميع مديريات ولاية بانشير، شمالي أفغانستان، بما في ذلك عاصمتها بازرك.
مصطلح بانشي أو بنجشير مكون من كلمتين فارسيتين بنج (خمسة) وشير (أسد)، أي الأسود الخمسة. وتقع ولاية بانشير على بعد 120 كلم شمالا من العاصمة الأفغانية كابول، وتحمل اسم الوادي الذي تحيط به جبال هندوكوش الشهيرة، وتربطه الجبال الشاهقة بالعديد من الولايات الأفغانية في الشمال وفي الشرق عبر طرق جبلية مع كل من إقليم بدخشان وتخار وبغلان في الشمال، ومع ولايتي لغمان ونورستان في الشرق.
وكان الموقع الجغرافي لوادي بانشير وترابطه مع الولايات المختلفة عن طريق سلسة جبال شاهقة من أهم العوامل وراء فشل كل القوى الخارجية من الدخول إليه والسيطرة عليه. إلا أن "طالبان" اعتمدت آلية جديدة للسيطرة على الوادي كانت أساس تضييق الخناق على الوادي ومحاصرته أولا ثم دخوله ثانيا من كل الأقاليم المحاذية له.
كان وادي بانشير أحد أهم معاقل المجاهدين الأفغان ضد القوات السوفييتية، حيث حاولت تلك القوات الدخول إليه والسيطرة عليه، ولكنها فشلت في ذلك بعد أن تكبدت خسائر كبيرة في الأرواح. كان الوادي معقل القائد الجهادي الشهير أحمد شاه مسعود، المشهور في الأوساط الجهادية بـ"أسد بنشجير"، والذي كان أحد أهم قادة الجمعية الإسلامية التي كان يقودها الرئيس الأفغاني السابق برهان الدين رباني.
سطع نجم وادي بانشير وقائده أحمد شاه مسعود بعدما تمكن الأخير، بالتعاون مع بعض جنرالات حكومة نجيب الله الموالية للروس، من السيطرة على كابول، وذلك على أثر معارك مع الحزب الإسلامي. وعين لاحقا مسعود وزيراً للدفاع في تلك الحكومة التي ترأسها القائد الجهادي صبغت الله مجددي أولا ورباني ثانيا، والتي سقطت بسيطرة "طالبان" على كابول.
وكان أحمد شاه مسعود، ومعقله بولاية بانشير التي تقطنها الإثنية الطاجيكية، أحد أطراف الحرب الأهلية التي انتهت إلى حد ما بظهور "طالبان" وسيطرتها على كابول في العام 1996. واستمر القتال بين "جبهة الشمال"، التي كان يقودها مسعود ومعقلها بانشير، وبين "طالبان"، حتى مقتل مسعود في عملية انتحارية لتنظيم "القاعدة"، وذلك قبل يومين من أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001.
بعد سقوط حكومة "طالبان" إثر التدخل الأميركي بأفغانستان، كان لوادي بانشير دورا مهما أيضا، حيث استعانت القوات الأميركية والدولية بالقوات المحلية المتمركزة في الوادي من أجل القضاء على حكومة "طالبان". كما كان لرموز بانشير دورا فعالا في حكومة الرئيسين السابقين حامد كرزاي وأشرف غني. ولكن كجبهة ظهرت مرة أخرى بعد سيطرة "طالبان" في الآونة الأخيرة على جميع الولايات واقترابها من العاصمة كابول.
أما الزعيم الحالي لما بات يعرف بـ"الجبهة الوطنية للمقاومة" أحمد مسعود، نجل أحمد شاه مسعود، فلم يعش كثيرا داخل الوادي، وكان سنه 12 عاماً عندما قتل والده. بعدها ذهب إلى إيران وعاش هناك عشر سنوات، ليستكمل دراسته في لندن.
وبعد عودته إلى أفغانستان، أسس عام 2016 "مؤسسة فكر أحمد شاه مسعود"، وهي مؤسسة خيرية تعنى بالأعمال الاجتماعية. وفي مارس/ آذار 2019، أعلن مسعود الابن دخوله غمار العمل السياسي، وعين من قبل أعيان بانشير خلفا لوالده أحمد شاه مسعود.
وبينما كانت له مواقف وطنية والتف حوله جميع المقربين من والده من القادة الميدانيين والسياسيين، لم تظهر منه أي مواقف مناهضة لـ"طالبان". لكن وبعد سيطرة الحركة على الولايات المجاورة لكابول، بدأ الرجل في تكوين جبهة مسلحة ضد الحركة، وانضم إليها، بالإضافة إلى الكثير من القادة الميدانيين في الشمال، وزير الدفاع في حكومة أشرف غني الجنرال بسم الله محمدي، ونائب الرئيس الأفغاني السابق أمر الله صالح.
وصباح أمس، أعلنت حركة "طالبان" أنها أحكمت سيطرتها على ولاية بانشير، في وقت أعلنت "الجبهة الوطنية للمقاومة" أنّ المعركة ستستمرّ.