شهدت الساحة الفلسطينية فترات اقتتالٍ داخليٍ عديدةٍ، بعضها عكس انقسامًا سياسيًا، وأخرى حدثت نتيجة تدخلٍ إقليميٍ واضحٍ، لكن لم تحظ غالبية القوى المشاركة في الاقتتال الفلسطيني الداخلي بتأييد الشارع الفلسطيني، خصوصًا تلك الممثلة لمصالح أحد الأطراف الإقليمية، بل على العكس اضمحل غالبيتها، وتقلّص حجم ودور من استمر منها، بفعل الدعمٍ الإقليميٍ فقط، مثل قوات الصاعقة والقيادة العامة وفتح الانتفاضة، في حين حظيت حركة حماس بدعمٍ؛ بالحد الأدنى قبولٍ، شعبيٍ فلسطينيٍ كبيرٍ داخل فلسطين وخارجها، رغم رفض مجمل شعب فلسطين لاقتتالها مع عناصر حركة فتح، بحكم دورها في النضال الفلسطيني التحرري، وهو ما يحيلنا إلى الواقع الفلسطيني الراهن.
يبدو الواقع الفلسطيني اليوم أمام مفترق طرقٍ حاسمٍ وحساسٍ، إذ باتت الخيارات واضحةً لكل متابعٍ للشأن الفلسطيني، فمن ناحيةٍ أولى؛ هناك خيار القسم الأكبر من الشارع الفلسطيني، داخل فلسطين وخارجها، الذي يدعم خيار النضال التحرري الكامل والشامل، وبجميع الوسائل النضالية المشروعة؛ سلميةً وعنيفةً، في مقابل خيار قيادة حركة فتح وحاشيتها، المتمثل في خيار سلطة رام الله الانهزامي، المتمسّك بدور السلطة الأمني الوظيفي تجاه حماية الاحتلال الصهيوني، وتلبية شروط داعمي الاحتلال الدوليين، أصحاب اليد العليا في تمويل السلطة وبقائها حتى اليوم.
لا يمثل اختلاف الخيارين معضلةً كبيرةً بحد ذاته، لو كان مجرد اختلافٍ في الرأي، لكنه يتحوّل يومًا بعد يوم إلى تناقضٍ صارخٍ، قد يستعصي على الحل قريبًا، في ظل دور السلطة الأمني في حماية الاحتلال، عبر اعتقال الفدائيين، وتجريدهم من سلاحهم، وعبر معلوماتها الاستخباراتية، التي تستفيد منها قوات الاحتلال العسكرية والأمنية على حدٍ سواء، وفقًا لتصريحات قيادة السلطة أنفسهم، كما في إعلان مدير مخابرات السلطة الفلسطينية اللواء ماجد فرج في عام 2016 "تمكنت الأجهزة الأمنية الفلسطينية من إحباط أكثر من 200 عملية كانت ستنفذ ضد إسرائيل"، وكذلك في مقابلة حسين الشيخ؛ رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير، ووزير الشؤون المدنية في السلطة الفلسطينية، التي أجراها مع موقع "واللاه" الصهيوني في سبتمبر/أيلول 2022، أثناء رده على انتقادات كل من وزير الأمن ورئيس الأركان الصهيونيين في حينها؛ بني غانتس وأفيف كوخافي على التتابع، قائلًا: "ليس صحيحًا أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية ضعيفة، ......ليس بوسعنا أن نعمل عندما يداهم الجيش الإسرائيلي مدننا..."، وأخيرًا كما توضحها إدانات رئيس السلطة والمنظمة؛ محمود عباس، لعملياتٍ فدائيةٍ عديدةٍ ضد الاحتلال.
تبدو السلطة حريصةً على عدم الاشتباك مباشرةً مع أيٍ من المجموعات المقاومة، لكنها تشتبك معها بطرقٍ غير مباشرةٍ،
ميدانيًا؛ وبعيدًا عن لغة التصريحات قدمت أجهزة السلطة خدماتها الأمنية للاحتلال، إذ ساعدته في اغتيال المثقف المشتبك باسل الأعرج، وكذلك في الكشف عن مكان اختباء الفدائي منتصر شلبي، ما أدى إلى اعتقاله، فضلًا عن اعتقال الأجهزة الأمنية الفلسطينية لأكثر من 13 قياديًا فلسطينيًا من المنتمين لفصائل تتبنى نهج المقاومة العنيفة، إضافةً إلى اعتقالها مناضلين وأسرى سابقين وفدائيين من مختلف المشارب السياسية، بما فيهم منتمو حركة فتح ذاتها. كذلك؛ اعتاد الشعب الفلسطيني في الآونة الأخيرة على انسحاب قوات أمن السلطة من البلدات والمدن الفلسطينية قبل اقتحامها من قبل قوات الاحتلال، كما حصل في مخيم جنين قبل بضعة أسابيع، ما يوحي بتبادل الدور في حماية الاحتلال بينهما، أو بالتنسيق الأمني الفاعل والنشط بالحد الأدنى.
كل ذلك يضع السلطة في مواجهةٍ غير مباشرةٍ مع مسار النضال التحرري ومنضاليه، بل يجعلها عائقًا رئيسيًا له، ما يعزّز من احتماليات الاصطدام، على الرغم من إصرار مجمل القوى والجهات السياسية والعسكرية الفاعلة في الساحة الفلسطينية، وخصوصًا من معارضي نهج السلطة وممارساتها؛ بما فيها أوساطٌ من حركة فتح، على تأكيد حرمة الدم الفلسطيني، ورفض الاشتباك مع قوات السلطة الأمنية، كما في بيان كتيبة جنين الأخير؛ 17/7/2023، الذي دعا الشعب الفلسطيني إلى الخروج في مسيرات غضبٍ تنديدًا باعتقال أجهزة السلطة الأمنية لـأعضائها، وأخرهم عيد حمامرة والأسير المحرر خالد عرعراوي.
في المقابل؛ تبدو السلطة حريصةً على عدم الاشتباك مباشرةً مع أيٍ من المجموعات المقاومة، لكنها تشتبك معها بطرقٍ غير مباشرةٍ، إما عبر الاعتقال ومصادرة أسلحتهم، التي يدافعون بها عن أنفسهم ووطنهم في مواجهة قوات الاحتلال وجيش المستوطنين. أو عبر مدِّ قوات الاحتلال بالمعلومات الاستخباراتية المهمة، حول أنشطتهم وأماكن وجودهم وأسلحتهم، والتي يتبعها سحب كل قوات الأمن الفلسطيني قبل تدخل قوات الاحتلال.
وهو ما يؤشر إلى حتمية الصدام مع أجهزة السلطة؛ سلميًا بالحد الأدنى، إن استمرت على ذات النهج، وهو ما يستوجب العمل الحثيث والدؤوب لتدارك هذا الاحتمال قبل وقوعه، والذي يتطلب كف يد السلطة الأمنية، وتصحيحًا جذريًا لنهجها الانهزامي بأسرع وقتٍ ممكنٍ. وهي مسؤوليةٌ جماعيةٌ وفرديةٌ، يتحملها بالدرجة الأولى المؤثرون داخل حركة فتح وأجهزة السلطة، لا سيما الأمنية منها، فضلًا عن عناصرهما، وخصوصًا عناصر الأجهزة الأمنية الوطنيين، الذين لم يتلوّثوا بعقيدة دايتون وبإغراءات السلطة والاحتلال وداعميهما المالية حتى الآن.