حالة من الارتياح في بعض دول الاتحاد الأوروبي بعد استقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من رئاسة حزب المحافظين، وتالياً رئاسة الحكومة.
وبينما لم يصدر موقف رسمي عن المفوضية الأوروبية، فإن هناك من عبّر عن ارتياحه صراحة، كما هو الحال في باريس ودبلن. ورغم تراجع الاهتمام الأوروبي ببريطانيا، ينتظر البعض الآخر التطورات وردود الفعل، وتنصيب حكومة جديدة مطلع سبتمبر/أيلول المقبل.
تراهن بعض الدول الأوروبية على أن يشكل طي صفحة جونسون فاتحة لإصلاح العلاقات مع بريطانيا
ولا يحتاج تفكيك سر الارتياح الأوروبي إلى عناء كبير، كون العلاقة بين أوروبا وبريطانيا كانت، خلال الأعوام القليلة الماضية، مشحونة بالتوتر، بعد الاستفتاء البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوروبي "بريكست" في يونيو/حزيران 2016، والذي أصبح ساري المفعول في يناير/كانون الثاني 2021، وما ترتب عنه من نزاعات مع القارة ككل، وخصوصاً فرنسا وجمهورية أيرلندا.
ترحيب علني فرنسي باستقالة جونسون
ولذا لم يكن مستغرباً أن ترحب، في صورة علنية، وزيرة الخارجية الفرنسية والسفيرة السابقة في لندن كاترين كولونا، باستقالة جونسون، نتيجة لموجة الاستقالات في صفوف وزراء ونواب وزراء حكومته وأعضاء مجلس النواب من حزبه، والتي بلغت 55 استقالة خلال 48 ساعة.
وقد اضطر هذا الأمر جونسون لأن يرضخ ويعلن الانسحاب بسبب نتائج التحقيقات التي دانته بقضية تتعلق بـ"بارتي غيت"، أو حفلات "داونينغ ستريت"، مقرّ رئاسة الوزراء البريطانية، التي خرقت قواعد الإغلاق الصارم الذي عاشته بريطانيا خلال فترة تفشّي فيروس كورونا شتاء 2020.
والتهمة التي وجهها القضاء إلى جونسون ومسؤولين كثيرين في حكومته عدم الشفافية وانتهاك تدابير الإغلاق. وتراهن بعض الدول الأوروبية على أن يشكل طي صفحة جونسون فاتحة لإصلاح العلاقات مع بريطانيا. وأعرب العديد من الدول عن هذه الرغبة.
وبالنسبة لفرنسا التي ترتبط بعلاقات خاصة مع بريطانيا، فإنها ترى بأن التدهور الراهن في العلاقات يعود إلى الشد والجذب بين البلدين خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، التي كان جونسون يقود فيها المركب البريطاني بعيداً عن الاتحاد الأوروبي.
ولأجل ذلك دخل معركة مفتوحة مع باريس، التي تعد بوابة لندن إلى بقية عواصم الاتحاد، حيث يشكل نفق بحر المانش شريان التبادل التجاري وممر حياة أساسي للجزيرة.
وقالت وزيرة الخارجية الفرنسية إن الطريقة التي أدارت فيها حكومة جونسون خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هي السبب في الحرب التي تستعر ثم تخمد بين باريس ولندن، وتلوح اليوم فرصة لإطفائها.
هشاشة التزام جونسون ببنود "بريكست"
ومن بين عناوين هذه المعركة هشاشة التزام جونسون ببنود اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، وعلى نحو خاص الاتفاق الجمركي الذي كانت بريطانيا ترى أنه يصب في صالحها، وتبين اليوم أن هذه النقطة تشكل أكبر لغم في الاتفاق، بالنظر إلى العلاقة بين أيرلندا الشمالية وبريطانيا وجمهورية أيرلندا العضو في الاتحاد الأوروبي.
لا توحي أجواء لندن بأن رئيس الوزراء البريطاني المقبل سيكون مختلفاً كثيراً عن جونسون
ويكمن مأزق لندن هنا في أنها قبلت بالحدود الجمركية الأوروبية، وبذلك عرّضت اتفاق "الجمعة العظيمة" للاهتزاز. ولذا أعربت دبلن عن نفس رغبة باريس، إذ رأى رئيس الوزراء الأيرلندي، ميشال مارتن، في رحيل جونسون "فرصة للعودة إلى الروح الحقيقية للشراكة والاحترام المتبادل الضروري للحفاظ على إنجازات اتفاقيات الجمعة العظيمة"، وهو شرط لا غنى عنه للاتحاد الأوروبي للالتزام باتفاق "بريكست".
معاني ترحيب بارنييه باستقالة جونسون
وكان لافتاً أن المفوض الأوروبي ميشيل بارنييه لم يفوّت فرصة استقالة جونسون حتى يدلي بدلوه ويعرب عن ارتياحه لهذا الحدث. ولذلك أكثر من مغزى كونه هو الذي هندس الاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وبريطانيا.
وتعتبر لندن أن بارنييه عمل على زرع لغم في كل فقرة من فقراته كي ينفجر في طريق بريطانيا، وأراد من خلاله أن يعطي درساً لجميع الذين يرفعون شعارات في أوروبا للخروج من الاتحاد، وهذا ما بات واضحاً بقوة.
ومن موقعه كمتابع للتفاصيل البريطانية الأوروبية، يقف بارنييه في صف أولئك الذين يعتقدون أن تغيير الحكومة في لندن يمكن أن يعكس الوضع، وأن يفتح رحيل جونسون صفحة جديدة للعلاقات مع بريطانيا "بناءة أكثر، وأكثر احتراماً للالتزامات التي جرى التعهد بها، لا سيما في ما يتعلق بالسلام والاستقرار في أيرلندا الشمالية، وأكثر ودية تجاه الشركاء الأوروبيين".
جونسون يترك خلفه حزباً منقسماً
حين ينسحب من الساحة، يترك جونسون خلفه حزباً منقسماً، وهذا ما عكسته مجريات التصويت على خلافته. وبالإضافة إلى الخلافات بين مؤيدي "بريكست" ومعارضيه، يعاني الحزب من الضعف بعد هزيمتين في الانتخابات الفرعية. وأظهرت استطلاعات الرأي أخيراً رفضاً لجونسون وفريقه، وكذلك الرغبة في التجديد.
وعلى هذا الحال، يواجه حزب المحافظين استحقاق الانتخابات العامة المقبلة في العام 2024. كما أنه يلقى نفوراً من قبل الطبقة السياسية، بسبب ما اتسمت به فترة جونسون من فساد وجدل حول أكاذيبه التي حاول تمريرها في البرلمان.
هناك سؤال أساسي يتعلق بتصرفات خليفة جونسون حيال الاتحاد الأوروبي، الذي ينظر إلى الساسة البريطانيين على أنهم ينكلون ببلادهم، منذ أن قرروا أن يقودوها بعيداً عن المصير الأوروبي المشترك.
لا سياسة اعتدال بريطانية تجاه أوروبا
ولذلك لا توحي أجواء لندن بأن رئيس الوزراء البريطاني المقبل سيكون مختلفاً كثيراً عن جونسون. قد يكون هناك بعض التغيير في الأسلوب، ولكن الجوهر سيبقى.
ولن تكون هناك سياسة اعتدال بريطانية تجاه أوروبا رغم المكانة التي تحتلها القارة في الاهتمام البريطاني، وبالتالي لن يتجرأ أحد على التشكيك في الخروج من الاتحاد الأوروبي، تحت طائلة تقويض فرصه السياسية الداخلية.
بات درس "بريكست" ماثلاً أمام جميع الحركات الشعبوية في أوروبا التي ترفع شعار الخروج من الاتحاد
على العكس من ذلك، سيركز النقاش على مسألة أنه يجب على بريطانيا أن تستفيد بشكل أكبر من مزايا "بريكست"، وتعميق الاختلاف مع أوروبا اقتصادياً، بالعودة إلى أيديولوجية رئيسة الحكومة السابقة مارغريت تاتشر للضرائب المنخفضة، ما يخلق فرصاً للتنافس مع الاتحاد الأوروبي، ويفتح الطريق لبداية جديدة مختلفة كلياً، يصبح فيها من الممكن مداواة الجراح وتخيل العودة إلى المودة التي قُوضت بشكل خطير بين لندن وغالبية العواصم الأوروبية.
وهذا يفترض أن القادة البريطانيين المستقبليين، خلافاً لديماغوجية جونسون، سيتوقفون عن استخدام الاتحاد الأوروبي مثل كيس ملاكمة، في حين أن بلدهم يغرق في الركود الاقتصادي.
ويعتبر 54 في المائة من البريطانيين أن خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي "يسير بشكل سيئ"، مقارنة بـ16 في المائة لا يزالون يؤمنون بمزاياه، وفقًا لاستطلاع لمؤسسة "يوغوف" نشر في 28 يونيو/حزيران الماضي.
تبدو لندن عن قريب أنها ضحية توجه خاطئ، ولم تكن بحاجة لخيار الخروج من الاتحاد الأوروبي. ومن تابع التداعيات خلال الأعوام الأخيرة يصل إلى قناعة بأن الذين كانوا يقفون وراء هذا القرار من بين الساسة لم يدرسوه جيداً، وبدأ الأمر على شكل مزحة وصار أشبه بورطة، لا أحد يعرف الطريق للخروج منها بأقل الأثمان. ومع مرور الوقت، يتأكد أن الفاتورة باهظة جداً، خصوصاً على المستوى الاقتصادي في المدى المنظور.
جونسون، أحد قادة حزب المحافظين الحاكم، كان من بين الذين تصدروا حملة الخروج من الاتحاد، وتمكن من إقناع العديد من مواطنيه بأن الاتحاد الأوروبي، الذي شبهه ذات مرة بالرايخ الثالث، كان آلة حرب ضد بريطانيا.
وحين نجح الاستفتاء لصالح الخروج من الاتحاد لم يجد ما يقوله بصدد خطة اليوم الثاني، وما هو برنامج المعارضين لأوروبا. ولهذا فإن المركب البريطاني يترنح منذ ذلك اليوم.
وقد قفز منه جونسون ذات مرة في لحظة حرجة، عندما استقال من وزارة الخارجية في يوليو/تموز 2018، لكنه عاد في 24 يوليو 2019 إلى رئاسة الحكومة التي فشل في قيادتها، تاركاً رفاقه من حزب المحافظين يحاولون ترقيع الثقوب.
أمثال بوريس جونسون كثر في أوروبا اليوم، وخصوصاً من أوروبا الشرقية الذين لم يقدموا شيئاً للاتحاد الأوروبي، الذي أعطاهم الكثير من أجل وصولهم إلى وضعهم الحالي.
كانت لندن قبل 20 عاماً مدينة تعاني من أوضاع صعبة في البنى التحتية ومعدلات النمو. ومع رفع الحواجز أمام الأوروبيين، تحولت إلى مدينة مفتوحة، وقصدتها نخب أوروبية ساهمت في تطورها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، حتى صارت مختبراً أوروبياً فريداً للاندماج بسبب التدفق الأوروبي الكبير في اتجاهها.
لكنها انكمشت فجأة، وساهمت المرويات التي ظهرت من أدراج استفتاء "بريكست" في إفساد نكهتها الخاصة، وتحولت فجأة من أرض استقبال أوروبي إلى مدينة تنكمش على نفسها في وضعية لم تعرفها عاصمة الإمبراطورية التي لم تكن تغرب عنها الشمس.
هذا الارتداد الرهيب سببه مزاج عنصري ترعرع داخل بيئة اقتصادية صعبة، ووجد له حاضنة داخل أحزاب في سدة الحكم، مثل "المحافظين".
درس "بريكست" ماثل أمام الحركات الشعبوية
إلا أنه مع سقوط جونسون، بات درس "بريكست" ماثلاً أمام جميع الحركات الشعبوية في أوروبا التي ترفع شعار الخروج من الاتحاد الأوروبي، وتقدمه هدفاً في حملاتها الانتخابية من أجل الوصول إلى الحكم.
وصار المأزق الذي وصلت إليه بريطانيا في علاقتها مع الاتحاد الأوروبي ومع نفسها يعني، في صورة مباشرة، كافة الحركات والأحزاب التي كانت تعول على النموذج البريطاني كي يشكل لها رافعة سياسية، تساعدها على زيادة رصيدها الانتخابي.
والملاحظ أنه كلما تعقد الوضع البريطاني وضاقت الطرق أمام الحكومة لتطبيق اتفاق الخروج من الاتحاد الأوروبي، خفتت أوساط الشعبويين في أوروبا.
أراد جونسون أن يقارن نفسه بقادة بريطانيين لامعين، مثل وينستون تشرشل، لكن السنوات الثلاث التي قضاها في "داونينغ ستريت"، إذا تذكرها التاريخ، سيسجلها بوصفها فترة تراجع سياسي واقتصادي واجتماعي في واحدة من أكثر الديمقراطيات حيوية في العالم.
وعلى الجميع أن ينتظر مدى صحة مقولة: "إذا سقط بوريس، يسقط بريكست"، التي أطلقها، أخيراً مايكل هيسلتين، "الأسد العجوز" لحزب المحافظين كما يلقبونه. وهو نفسه مهندس سقوط مارغريت تاتشر بسبب مواقفها المناهضة لأوروبا.