يؤكد مسؤولون عراقيون أن ورقة الإصلاح الاقتصادي الشاملة "الورقة البيضاء"، التي قدمها رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، إلى البرلمان، بغية اعتمادها كإطار عمل حكومي لتجاوز الأزمة المالية التي تمر بها البلاد، لا يمكن تمريرها من دون مساومات سياسية، معتبرين أن المصالح السياسية باتت تتحكم بمصير المشاريع والقرارات في العراق.
وحتى الآن، وبعد مرور نحو 40 يوماً على موعد تسلّم الموظفين والمتقاعدين مرتباتهم الشهرية، لا يبدو أن ثمة حلاً قريباً للأزمة، إذ على الحكومة توفير نحو 5 مليارات دولار شهرياً للموازنة التشغيلية، بينما بلغت قيمة ما باعه العراق من النفط والواردات الأخرى 3.4 مليارات دولار فقط. وتسعى الحكومة، في هذه الأثناء، لموافقة البرلمان على الاقتراض الداخلي من البنوك، لتجاوز الأزمة بشكل مؤقت.
رفضت قوى كبيرة في البرلمان مناقشة الورقة
وتضمّنت "الورقة البيضاء" خمسة محاور لتحقيق الاستقرار المالي المستدام، وضمان تنفيذ إصلاحات اقتصادية كلية، وتوفير الخدمات الأساسية وتطوير الحوكمة والبيئة القانونية، وتحسين البنى التحتية الأساسية، وتوفير الخدمات الأساسية. وفي ظل أزمة مالية خانقة، والبحث عن حلول لتجاوزها، يسعى الكاظمي للحصول على دعم سياسي لتمرير ورقته، ناقش بنودها، منتصف الشهر الماضي، مع رئيسي البرلمان محمد الحلبوسي ومجلس القضاء الأعلى فائق زيدان، وقوى سياسية أخرى، داعياً البرلمان لأن يناقشها ويقرها، حتى وإن كان من حيث المبدأ فقط.
لكنّ محاولات الكاظمي اصطدمت بالأجندات السياسية للقوى الكبيرة في البرلمان، والتي رفضت حتى مناقشة ورقته. ووفقاً لعضو بارز في البرلمان العراقي، تحدث لـ"العربي الجديد" طالباً عدم ذكر اسمه، فإن "بعض القوى الكبيرة في البرلمان رفضت مناقشة الورقة الإصلاحية، معتبرة أنها ورقة دعائية قدمها الكاظمي لأجل الكسب الشعبي، ومحاولة إلقاء الكرة بساحة البرلمان، وإظهاره بصورة المُعطل للإصلاحات الحكومية". وأضاف أن "تلك القوى تعلم حاجة الحكومة لتجاوز الأزمة المالية، من خلال العمل بمضامين الورقة، الأمر الذي يدفع تلك القوى لاستغلال ذلك لأجل المساومة السياسية، وفرض بعض الشروط والمكاسب لصالحها مقابل تمريرها". واعتبر أن "الورقة لا أمل بتمريرها في البرلمان من دون التوافق بشأنها. وحالياً بعض القوى تسعى لكسب الوقت، وتضييقه على الحكومة لإجبارها، والأطراف الداعمة لها، على القبول بشروطها من أجل بحث وتمرير الورقة، من بينها قانون المحكمة الاتحادية المختلف عليه، وإضافة الحكومة تخصيصات مالية للحشد الشعبي، من بينها قبول آلاف الأسماء الجديدة في صفوف الحشد".
في المقابل، يثني مختصون ومسؤولون عراقيون على فقرات "الورقة البيضاء" وأهميتها في ظل الأزمة المالية الحالية، والحاجة الملحة لتمريرها، وعدم وضعها ضمن خانة المساومات التي اعتادت العملية السياسية في العراق عليها منذ العام 2003.
أحمد الصفار: الورقة فيها قراءة واقعية للوضع المالي والاقتصادي
مقرر اللجنة المالية البرلمانية، النائب أحمد الصفار، عدّ الورقة "خطة اقتصادية مالية مهمة في حال تمريرها". وقال، لـ"العربي الجديد"، إن "الورقة فيها قراءة واقعية للوضع المالي والاقتصادي، وهي سياسة مالية ونقدية معقولة، وقد قسّمت الإصلاحات إلى خمس مراحل، كل مرحلة تمهد للتالية وفق فترات". وأضاف: "إذا تمكنت الحكومة من تطبيقها فسيكون هناك تحقيق نوعي وانتشال لاقتصاد البلد من المديونية والفوضى، لكن نحتاج إلى الإرادة لأجل تطبيقها". وأشار إلى أن "المرحلة الأولى من الورقة مهمة جداً، ومن الممكن أن تنفذ بإمكانات داخلية من دون دعم خارجي أو قرض دولي. وهي تمهد للمراحل الأخرى، لأنها تهدف إلى تثبيت الوضع المالي من خلال تعظيم الإيرادات وترشيد النفقات وإعادة أنظمة الإدارة المالية". وأكد أن "القوى السياسية التي تريد مصلحة البلد ستكون مؤيدة للورقة، أما الأطراف المتضررة منها فستعترض عليها، لأن العقبة الوحيدة في العراق هي الفساد". ولم يستبعد أن "تكون هناك مساومات لتمريرها مقابل قوانين أخرى".
المتحدث باسم "جبهة الإنقاذ والتنمية" عبد الكريم عبطان، أكد أن "أسلوب المساومة أصبح نهجاً متبعاً من قبل الأحزاب السياسية، وهذا سينسحب على الورقة البيضاء كغيرها من المشاريع الأخرى، ما سيجعل تطبيقها أمراً صعب التحقيق". وقال عبطان، لـ"العربي الجديد"، إن "العراق يحتاج إلى معالجات سريعة للخروج من الأزمة المالية، لا أن ينتظر تطبيق الورقة البيضاء، والتي تتضمن معالجات تستغرق وقتاً ليس بالقصير. كما أنها بالتأكيد ستدخل خانة المساومات السياسية، ولا سيما أن المساومات والأجندات الحزبية والمصالح الخاصة أصبحت عرفاً عند أغلب الأحزاب في العراق". وانتقد الأطراف التي "تتبع منهج المساومة على حساب لقمة عيش الشعب العراقي". ودعا إلى "التكاتف والتعاون من أجل إخراج العراق من الأزمة المالية التي يمر بها، والابتعاد عن أسلوب الأجندات الحزبية". وأشار إلى أن "العراق يحتاج إلى معالجات سريعة، وبالإمكان أن نتجه نحوها، لأن البلد يمر بأزمة خانقة، والأزمة تهدد رواتب الموظفين، والبلد على حافة الهاوية". ودعا الحكومة إلى "متابعة الملفات الإصلاحية، والقرارات التي اتخذت بهذا الشأن، وضرورة تنفيذها لأجل فتح منفذ لتجاوز الأزمة المالية الخانقة".
ويؤكد سياسيون أن "الورقة البيضاء" تحتاج إلى شجاعة لتنفيذها. وقال عضو الحزب "الديمقراطي الكردستاني" ماجد شنكالي إن "الورقة البيضاء شخصت مكامن الخلل في قطاعي الاقتصاد والمال بشكل موضوعي وواقعي، ووضعت الحلول لهذه المشاكل". وشدد، في إيجاز صحافي، على "أهمية توفر الشجاعة والقدرة على البدء بتنفيذ الحلول، كما هو مخطط لها ضمن الورقة، وإلا فإن الدولة ستقف عاجزة عن توفير النفقات في منتصف 2021".
في المقابل، قللت قوى سياسية، من بينها تحالف "سائرون" الذي يتزعمه مقتدى الصدر، من أهمية "الورقة البيضاء"، معتبرة أنها "غير مهمة". وقال النائب عن التحالف صباح العكيلي، لـ"العربي الجديد"، إن "الوضع المالي صعب، والورقة لا ترتقي إلى مستوى الإصلاحات المالية، وما طرح فيها هو منهج موجود أصلاً، ولا يحتاج إلى صلاحيات حكومية أساساً". واعتبر أن "المرحلة المقبلة تتطلب أن تكون هناك جدية لتغيير الواقع المتمثّل في عدم توفر سيولة مالية، وعلى الكاظمي ووزير المالية إعداد خطة حقيقية للمرحلة المقبلة". وأشار إلى أن "الكاظمي لا تتوفر لديه حلول حقيقية، لذلك تجب مساندته، بشرط أن يوفر للمرحلة المقبلة آلية عمل حقيقية، وخطة لتعظيم الموارد لتسديد الديون". واعتبر أن كتلته "ستصوت على غالبية القوانين التي تخدم الناس، وسنكون مع الكاظمي ضد الجهات التي تحاول الضغط عليه، في حال كانت لديه نية حقيقية للإصلاح".
يأتي هذا الجدل السياسي، في ظل أزمة مالية خانقة يمر بها العراق، إثر انخفاض أسعار النفط عالمياً، والتي تسببت بصعوبة توفير الحكومة للمرتبات، في وقت تضغط قوى سياسية على الحكومة لتنفيذ وعودها الإصلاحية التي أقرتها في برنامجها الحكومي. كما قرر البرلمان العراقي، تحديد موعد لاستضافة رئيس الحكومة ووزير المالية علي علاوي، بشأن الأزمة المالية وملف المرتبات.