تحلّ اليوم الثلاثاء الذكرى العاشرة لاستشهاد الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الذي تشير كل الدلائل إلى أن إسرائيل قتلته بالسم وأفلتت بفعلتها. ويُحيي الفلسطينيون ذكرى اغتيال قائدهم، بالمهرجانات والاحتفالات والأناشيد، فصور أبو عمار في كل شارع وزقاق، وعلى جدران البيوت والمدارس، في المدن والقرى والمخيمات، في الوطن وفي الشتات.
حوّل الفلسطينيون ذكرى الاغتيال إلى الاحتفال، ففي ظلّ غياب الفعل والقدرة على الاقتصاص من القتلة، حلّت الكلمة والأنشودة مكان الفعل الحقيقي، الذي كان ينتظره الشعب من قيادته ومن المجتمع الدولي بشكل عام. هذه الآلية نفسية دفاعية بالتعويض عن الفعل بالكلمة، واستبدال الثأر من القتلة بتمجيد الشهيد ورفعه ليكون أيقونة وطنية ورمزاً فلسطينياً، يُجمع عليه كل فلسطيني مهما اختلف مع سياسة أبو عمار. وتُبدي إسرائيل انزعاجها الدائم، من كل مظاهر الاحتفال الفلسطينية، التي تراقبها عبر إعلامها عن كثب وباهتمام كبير.
وتابع "كانت إسرائيل حريصة أن يحوّل موت أبو عمار بالسمّ، صورته من رمز وطني إلى مجرد رمز عادي، يبهت مع الأيام، لكن ما حصل أن جثة أبو عمار المسمومة، صنعت تاريخاً إضافياً للشعب الفلسطيني، الذي ستبقى أجياله تتذكر أن إسرائيل قتلت قائدها ورمزها الوطني وأول رئيس لدولة فلسطين، بالسمّ". وتخطّى الكره الإسرائيلي لأبو عمار كل الحدود والأوصاف، بعد أن ازداد خطره، فكان لا بد من قرار بتصفيته، وإبعاده بشكل نهائي عن المشهد الفلسطيني.
وحسب عوض "فقد انتهى دور أبو عمار مع اتفاقية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع إسرائيل عام 1993، لكن المشكلة أنه بعد سنوات قليلة اصطدم مع حكومة الاحتلال الإسرائيلي، فهو كان يعتبر أوسلو مرحلة تحرير، أما إسرائيل فكانت متمسكة بأوسلو كإعادة إنتاج للاحتلال، ومن هناك جاء التصادم بين الطرفين".
اغتيال أبو عمار كان عبارة عن قتل للشخص وللظاهرة "العرفاتية" التي كانت تشكّل خطراً على أمن إسرائيل. وحسب العقلية الإسرائيلية "فإن العمل الوطني مرتبط بشخص، أي قائد، وإذا ما تم قتل هذا الشخص، فإن العصابة تنتهي"، كما يوضح عوض.
لدى إسرائيل مئات الأسباب لتكره ياسر عرفات، وتقوم بتصفيته، فهو الرجل الذي قام بتشكيل وطن معنوي للفلسطينيين، وحدّد المساحة الجغرافية، والشعب والحدود، في الوقت الذي كانت القضية الفلسطينية على وشك أن تُنسى.
ومن وجهة نظر واقعية، فقد نجح أبو عمار في إفشال المشروع الصهيوني الذي كان يهدف إلى احتلال فلسطين وإحلالها بالصهاينة، وإزالة الفلسطينيين ورميهم في الدول العربية ليذوبوا في مجتمعاتها وينسوا وطنهم.
فقد قاد أبو عمار المشروع الوطني الفلسطيني، في عام 1965، وأطلق مع مجموعة من الثوار حركة "فتح"، وبعد أن كان الفلسطينيون في الدول العربية قد انضموا إلى أحزابها، التي كانت على علاقة عدائية بعضها ببعض سواء البعث السوري أو البعث العراقي، عادوا وارتبطوا بحزب سياسي هدفه تحرير فلسطين. كما تمّ تأسيس فروع لحركات يسارية فلسطينية من رحم الأحزاب اليسارية، انضمّ لها الفلسطينيون.
أحد أهم الأمثلة على ما سبق، كان معركة "الكرامة" الشهيرة التي وقعت بين الفدائيين الفلسطينيين وجيش الاحتلال الإسرائيلي في 21/ 3/ 1968. ففي صباح اليوم التالي للمعركة، تجمّعت طوابير الفلسطينيين في القاهرة وعمان وبغداد ودمشق، في انتظار الموافقة على طلبها الالتحاق بالثورة الفلسطينية. في ذلك اليوم سجلت القاهرة دخول 5 آلاف فلسطيني في جيش "منظمة التحرير" بعد معركة "الكرامة".
بالنسبة إلى المجتمع الإسرائيلي، فإنه كان ينظر إلى أبو عمار على أنه أدولف هتلر جديد، لكن عرفات استطاع أن يدخل إلى قاعة الأمم المتحدة عام 1974 وهو يحمل مسدسه الشخصي، وألقى خطابه الشهير "جئتكم أحمل غصن الزيتون بيدٍ وبندقية الثائر في اليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي".
قاد عرفات حركة التحرر الوطني الفلسطيني التي حازت على اعتراف في الأمم المتحدة، وأفشلت فعلياً المشروع الصهيوني الذي كان يريد التخلص من الفلسطينيين وطردهم والاستيلاء على الأرض. ويدين الفلسطينيون لعرفات الذي قاد منظمة التحرير وحركة "فتح" بإعادة إحياء الهوية الوطنية الفلسطينية، التي اعتمدت على الكفاح المسلح، الذي كان أولوية لعرفات، واعتمده استراتيجياً وتكتيكياً، إذ لا يُمكن أن يتقدم المشروع الوطني دون الكفاح المسلح، بحسب رأيه.
وهذا ما أدركته إسرائيل لاحقاً، فعرفات لم ينبذ العمل المسلح حتى آخر أيامه، وما دعمه للعمليات الاستشهادية التي قادتها "حماس" أو دعم كتائب "شهداء الأقصى" التي ولدت بداية انتفاضة الأقصى، إلا دليل على ذلك.
ويشير المصدر المقرّب من عرفات إلى أنه "عبر الكفاح المسلح أعاد أبو عمار الاعتراف الدولي بفلسطين سياسياً وجغرافياً، وما حصل بعد موته هو نكسة بمعنى الكلمة، فخليفته محمود عباس قام بتفكيك كتائب شهداء الأقصى، ودمج أفرادها في الأجهزة الأمنية وأعطاهم رواتب، وذلك بعد أن حصل من الاحتلال الإسرائيلي على عفوٍ لهم، يقرّون على أساسه أنهم ارتكبوا أعمال عنف ضد إسرائيل ويعدون بعدم العودة لها من جديد".
لذا لم يكن قرار التخلص من عرفات إسرائيلياً فقط، بل كان اسرائيلياً أميركياً، وخصوصاً بعد منح الرئيس الأميركي جورج بوش الابن موافقته على التخلص من عرفات، كما كان هناك تفهم دولي لوجوب التخلص من مرحلة عرفات. فالتخلص منه كان عبارة عن تصفية حساب مع الماضي بالنسبة لإسرائيل، ودرس للمستقبل تريد الولايات المتحدة وإسرائيل تلقينه لمن يخلفه.
وحسب المصدر المقرب من عرفات "بالنسبة للماضي، تقوم الفلسفة اليهودية على قتل من ألحق الأذى بها، وتسبب بقتل آلاف الإسرائيليين، لذلك لم تكن إسرائيل لتترك عرفات يموت وحده، بل كان يجب أن تقتله لتحقق نظريتها في الردع وهي أن كل من يلحق الأذى بإسرائيلي أو ألحق أذى بإسرائيل يجب أن يُقتل تحقيقاً لنظرية الردع". لكن عرفات حتى في حصاره، لم يردع لا قولاً ولا فعلاً، فما زالت أقواله "شهيداً شهيداً شهيداً" و"ع القدس رايحين شهداء بالملايين" في الأيام الأخيرة في ذاكرة كل فلسطيني.
ويوضح المصدر أن "قرار إعدام عرفات، جاء في ذروة انتفاضة الأقصىى، وبعد التخلّص منه، بدأت عملية بناء سلطة فلسطينية جديدة وفق معايير إسرائيلية، ليس لها علاقة باتفاقية أوسلو الموقعة عام 1993، التي انتهت عملياً في 9 أبريل/نيسان 2002، عندما اقتحمت دبابات رئيس الحكومة الإسرائيلية آرييل شارون، أراضيَ خاضعة لسيطرة السلطة الفلسطينية، بحسب اتفاقية أوسلو، في الضفة الغربية".
ويضيف "منذ ذلك اليوم بدأت عملية بناء البنية المدنية والأمنية الجديدة للسلطة الفلسطينية، والتي ظهرت ملامحها المادية على الأرض في 2003، عندما بدأت العمل من جديد على إعادة بناء المقارّ الأمنية التي قصفتها إسرائيل وهدمتها، ولاحقاً في عام 2005 في اتفاقيات العفو عن المقاومين التابعين لكتائب شهداء الأقصى".
ويؤكد "عرفات كان يدرك ما يجري، وكان ضد هذا المشروع، لكن رفضه لم يكن يعني الشيء الكثير، فقطار التغيير الداخلي والخارجي كان فعلاً قد غادر المحطة، بينما أبو عمار كان في حصار وعزلة عربية ودولية، ولم يكن ليستطيع أن يغيّر شيئاً في المعادلة المفروضة".
ويدرك الفلسطينيون، أن الفراغ الذي تركه أبو عمار، من المستحيل أن يملأه أحد، ولعلّ كل المآزق التي وقع فيها الشعب الفلسطيني منذ اغتيال عرفات، تعيده للأذهان في كل مرة بقوة، وأكبر دليل على ذلك أحداث الانقسام بين "فتح" و"حماس" عام 2007.
ويقول الكاتب والمحلل، جهاد حرب، لـ "العربي الجديد"، إنه "لو أن أبو عمار عاش حتى عام 2006، لما كان الانقسام قد حدث، وكان سيترك أي مكان يتواجد فيه ويقصد غزة، ويقوم بتسوية الأمور عبر فرض إجراءات تمنع من الوصول للانقسام".
ويتابع "عبر تتبّع كيف قضى عرفات على كل محاولات الانشقاق الفلسطيني ومنها على سبيل المثال حرب القرار المستقل عام 1983، وحمى الحركة الوطنية الفلسطينية من التشظي، ندرك كم كان هذا القائد محنكاً وماهراً في السياسة".
وعلى العكس من أبو مازن الذي أضعف حركة "حماس" المعارضة له، كان أبو عمار ماهراً في نسج العلاقات والمصالح مع المعارضة الداخلية، والتي كان يصنعها إن لم تكن موجودة، لتخفيف الضغط الخارجي عليه، لذلك يجمع الفلسطينيون لو أن أبو عمار كان حياً لما آلت الأمور إلى ما هي عليه الآن.