هي لحظات عصيبة أمام من تبقّى من محاصرين في مدينة حلب، على وقع التخبّط في معطيات تنفيذ الاتفاق الجديد، والذي يقضي بخروجهم باتجاه الريف الغربي ومحافظة إدلب. أمضى كثر منهم النهار والليل بانتظار وصول الحافلات التي تقلهم، وسط أجواء من البرد الشديد، ونقص في الطعام والمياه، وكل الاحتياجات الضرورية للحياة. بين 40 و50 ألف شخص في تلك الأحياء بدوا في حالة استنفار دائمة، على وقع نشرات الأخبار والروايات والشائعات بشأن وصول الحافلات، وتعثر الاتفاق بشأن بلدتي كفريا والفوعة المواليتين للنظام في ريف إدلب، بعد نجاح إيران ومليشياتها في فرض شمولهما بالاتفاق الخاص بحلب، خلافاً للاتفاق الأصلي بين روسيا وتركيا والفصائل.
وإذا تسنّى للاتفاق الجديد الذي يقضي في المحصلة بخروج جميع المحاصرين في حلب، في مقابل خروج أربعة آلاف من المحاصرين في كفريا والفوعة، إضافة إلى 1500 من الجرحى والمدنيين في بلدتي مضايا والزبداني المحاصرتين من جانب حزب الله في ريف دمشق، فإن نصف المحاصرين في حلب سيخرجون بالتزامن مع خروج 1250 شخصاً من كفريا والفوعا، إذ ستكون الأولوية للجرحى والنساء والأطفال، والذين يشكّلون نسبة كبيرة من المحاصرين في تلك المناطق.
من جهته، كشف الناشط محمد حلواني الموجود بين المحاصرين، لـ"العربي الجديد"، أن "أعداداً كبيرة من الناس ينتظرون فتح الطريق، معظمهم نساء وأطفال في أجواء من البرد القارس، والذي لا يجدون لمقاومته سوى إشعال نيران والتحلق حولها". ولفت إلى "وجود نقص شديد في المواد الغذائية وفي مياه الشرب في ظل غياب كامل للمنظمات الإنسانية"، مشيراً إلى "وفاة عدد من الجرحى في الأيام الأخيرة، بسبب نقص العناية الطبية. مع العلم أن الجرحى والمرضى إما منتشرون بين الأهالي المنتظرين، أو محشورون في بعض الشقق التي تحولت إلى مراكز طبية، بعد أن دمّرت قوات النظام من خلال القصف الجوي والمدفعي في الأيام الماضية جميع المستشفيات والمراكز الطبية في الأحياء المحاصرة". ولفت إلى أنه "هناك ثلاثة أطباء على الأكثر، ما زالوا موجودين بين المحاصرين، لكنهم يفتقرون إلى أية معدات أو أدوية تساعدهم على معالجة الجرحى والمرضى الذين يبلغ عددهم بضع مئات".
في هذا الإطار، نشرت "شبكة أخبار حلب الشهباء" الموالية للنظام نداءات عدة تطالب "أصحاب الحق ورجال الإنسانية وجميع الجهات، التوجه إلى أحياء حلب الشرقية من باب النيرب إلى الفردوس والمعادي، لرفع الجثث الموجودة في الأزقة والطرقات منذ نحو الأسبوع. مع العلم أن أقسام الشرطة تعلم مكان وجودها، وأن عددا كبيرا من العائلات النساء والأطفال يعودون لمنازلهم في تلك المناطق، ويشاهدون تلك الجثث".
بدوره، أفاد الناشط الإعلامي محمد حجار، والذي تمكن من مغادرة المناطق المحاصرة يوم الجمعة، على متن إحدى حافلات الإجلاء، المقيم حالياً في مدينة إدلب، أن "الوضع في المناطق المحاصرة كارثي بكل معنى الكلمة، وبقاء الناس هناك على هذه الحال لفترة أطول يعني حدوث حالات وفاة جماعية من الجوع والتعب وغياب العناية الصحية، كونهم يفترشون الأرض بانتظار أخبار عن وصول حافلات الإجلاء". وأكد في حديثه لـ"العربي الجديد"، أن "جميع الباقين في تلك الأحياء راغبون بالمغادرة"، مشيراً إلى أن "حوالي نصفهم من سكان تلك الأحياء، والنصف الآخر تقريباً نازحون إليها من الأحياء الأخرى التي سقطت أخيراً بيد قوات النظام".
بدورها أفادت وكالة "فرانس برس" أن "الأهالي توجهوا إلى حي العامرية، النقطة التي تنطلق منها الحافلات، بعدما تم تداول أنباء عن إمكانية خروجهم صباحاً". وأفادت بأن "حالة فوضى وضياع تسود صفوف الأهالي في ظلّ تضارب المعلومات، عدا عن حالة الإرهاق التي يعانون منها جراء المجيء كل يوم إلى حي العامرية بانتظار إجلائهم من دون جدوى". كما أن "الطاقم الطبي الموجود في المنطقة يعجز عن تقديم كافة الخدمات، خصوصاً مع وجود حالات حرجة تحتاج تدخلاً جراحياً دقيقاً". وقال المعالج الفيزيائي محمد زعزع للوكالة إنه "لم يبق إلا طبيب جراح في المسالك البولية وطبيب أمراض داخلية وقلب وطبيب عام، بالإضافة إلى صيدلي واحد وأربعة ممرّضين". وأشار إلى أنه "قبل يومين توفى مريض لأن الجرّاح لم يكن موجوداً، وأجرى العمل الجراحي ممرض عمليات وطبيب عام وأنا ساعدت في التخدير والتمريض، واحتجنا إثر ذلك لنقله إلى الريف من دون أن نتمكن من ذلك، ما أدى إلى وفاته".
وفي بيان لها أصدرته أمس، أكدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" أن "مئات الأطفال لا يزالون محاصرين في شرقي حلب"، داعية إلى "ضرورة إجلاء هؤلاء الأطفال على وجه السرعة، حتى لا يلقوا حتفهم".
في هذا الإطار، قال المدير التنفيذي لليونيسيف أنتوني ليك، إنه "قد تمّ إجلاء أكثر من 2700 طفل من شرق حلب حتى الآن، بما في ذلك بعض الذين كانوا مرضى أو جرحى أو دون ذويهم". وأضاف أنه "مع ذلك فإن مئات من الأطفال المعرضين للخطر، بما فيهم الأيتام، لا يزالون محاصرين داخل الجزء الشرقي من المدينة، نحن قلقون للغاية بشأن مصيرهم، وإذا لم يتم إجلاؤهم على وجه السرعة، فسوف يلقون حتفهم".
وفي حال استؤنفت عمليات الإجلاء وفق الاتفاق الأخير، فإن قوات النظام سترسل مائة حافلة لهذا الغرض إلى الأحياء المحاصرة في حلب، ما يعني تسريع عمليات الإجلاء قياساً للوتيرة السابقة، وأساساً فإن كل عشرين حافلة في القافلة الواحد تقلّ ما بين ألف و1200 شخص، ما يعني أن عدد المرحلين هذه المرة سيكون بين خمسة وستة آلاف شخص في القافلة الواحدة.
وإذا احتسبنا إجمالي العدد هو خمسين ألف شخص، فهؤلاء يحتاجون الى بين 8 و10 رحلات لنقلهم جميعاً، أي حوالي يومين، هذا إذا لم تحدث عراقيل جديدة كما حصل في المرات السابقة، فضلاً عن التعقيدات المرتبطة بتزامن عمليات الإخلاء مع العمليات المماثلة في كل من كفريا والفوعا ومضابا والزبداني، وأي خلل يحدث في أية عملية لا بد أن يؤثر على بقية المناطق.
ووفقاً لآلية الترحيل السابقة، يتجمّع الناس في ساحة بحي السكري بانتظار الحافلات، ويصعدون إليها دون تفتيش، لكن يصعد الى الحافلة ضابط روسي يقوم بإحصاء العدد في الحافلة، قبل أن تنطلق تتقدمها سيارات تابعة للهلال الأحمر السوري وللصليب الأحمر الدولي. وحال وصول المهجرين إلى "النقطة صفر" في حي الراشدين بالريف الغربي، وهو أول ما يكون في طريقهم بعد خروجهم من مناطق سيطرة قوات النظام، يتم توجيه الحافلات الى وجهتها التالية، بعد تفقد الموجودين والتعامل مع الحالات الصعبة من الجرحى. وقد أعدت السلطات والمنظمات المحلية في الريفين الغربي والشمالي من محافظة حلب، وفي محافظة إدلب تجهيزات لاستقبال المرحلين بالتعاون مع السلطات التركية ومنظمة (أي ها ها) الإغاثية التركية لناحية الإقامة والطعام والمعالجة الطبية.