لكن هذه النتائج لا تخفي الزلزال الذي أحدثته في المشهد السياسي الفرنسي الكلاسيكي، من حيث انهيار الأحزاب والزعامات السياسة التقليدية ودخول فاعلين سياسيين جدد، على غرار ما حدث في إيطاليا واليونان والبرتغال وإسبانيا، مع أخذ خصوصيات كل بلد بعين الاعتبار.
وهكذا يصعد ماكرون المرشح الشاب الذي كان المراقبون السياسيون، الأكثر تفاؤلا، يتوقعون أن ينتظر ولاية رئاسية ثانية لفرانسوا هولاند، ثم يسمح لحماسه الجارف وطاقته القوية بالانفجار سنة 2022. لكن هذا المرشح، بدون ماض سياسي، والذي يقول إنه لا يعترف بثنائية اليسار واليمين في السياسة، سيستقيل من الحكومة ثم يترشح قبل الأوان فيخلخل كل الأحزاب الفرنسية، عدا اليمين المتطرف، كما قال رئيس الحكومة اليميني السابق، جان بيار رافاران. كما استفاد ماكرون من الفضائح المالية لمرشح اليمين التقليدي، فرانسوا فيون، ومن حزب اشتراكي على وشك الانهيار.
في المقابل، استطاعت لوبان أن تمنح حياة ثانية لإنجاز والدها، جان ماري لوبان، الذي صعد إلى الدورة الثانية من رئاسيات 2002 وخسرها أمام جاك شيراك. وإذا كان إنجاز لوبان غير مفاجئ، بخلاف إنجاز والدها، الذي استفاد من ظروف استثنائية، منها نسبة المصوتين المرتفعة وأيضا تعدد مرشحي اليسار، فقد نجحت مارين في تقديم صورة جديدة عن الحزب الذي أسَّسه والدها، ما جعلها تنجح في إقصاء فيون، مستفيدة من متاعبه مع القضاء ومن عصيان قسم مهم من قيادات حزبه، وأن تقصي مرشح الحزب الاشتراكي، بونوا هامون، في آن واحد.
على غرار الدورة الثانية من انتخابات 2002، حيث ظهر ما يسمى بـ"الجبهة الجمهورية"، وتعني تحالف اليمين واليسار ضد اليمين المتطرف، ووجد المرشح اليميني جاك شيراك نفسه مدعوما من قبل أغلبية الأحزاب السياسية الفرنسية، ضد جان ماري لوبان، ما مكنه من تحقيق نصر يشبه ما يحدث في "جمهوريات الموز". يحدث الشيء ذاتُهُ، مع هذا المستجد. فقد أعلن فيون عن قراره، دونما تردد، بالتصويت لصالح ماكرون، لمواجهة الحزب المتطرف الذي يُهدد بتنفيذ سياسات اقتصادية كارثية وأيضا الخروج من الاتحاد الاوروبي.
وكانت شخصيات يمينية قد بادرت للتعبير عن دعمها لماكرون أو نيتها التصويت ضد مارين لوبان.
كما أن هامون، لم يتردد من جانبه، في الدعوة للتصويت لصالح ماكرون، لأنه "يجب أن نميّز بين خصم وبين عدوّ للجمهورية"، كما قال في كلمته بعد ظهور نتائج الانتخابات.
لن يجد ماكرون، مع كل الدعم الذي تلقاه، والذي سيتواصل، ومن بينه دعم الرئيس الفرنسي، فرانسوا هولاند، صعوبة في هزيمة لوبان. ويظل السؤال المطروح هو مدى قدرة ماكرون على الحصول على أغلبية برلمانية تؤمن له تنفيذ برنامجه ووعوده الانتخابية، في ظل إمكانية تقدم لوبان بعشر نقاط إضافية، وهو ما يعادل النِّسَب التي حققها حزبها في استحقاقات انتخابية سابقة.
ورغم أن الانتخابات التشريعية تنتظر اليمين واليسار التقليديين، بعد انتخاب رئيس الجمهورية، والتي يتوجب فيها تجميع كل الطاقات، إلا أنه سيكون من الصعب على بونوا هامون أن يدخل الانتخابات مع قياديين "خانوه" وتحالفوا مع خصمه ماكرون، وأيضا مع مرشح اليسار الراديكالي، جان لوك ميلانشون، الذي أنجز حملة انتخابية قوية وحصل على نسبة كبرى تجعله أكبرَ ممثل لليسار حاليا. وقد علق هامون، بعد الإعلان عن النتائج على هذا الأمر قائلا: "لم أنجح في وقف الكارثة التي أصابت الحزب الاشتراكي منذ سنوات"، ولا التصدّي لـ"الخيانات"، آملا بأن "اليسار لم يَمُت".
كما أنه سيكون صعبا على قياديين اشتراكيين، خاصة من أنصار الرئيس هولاند ورئيس وزرائه السابق، مانويل فالس، صوَّتوا لفائدة ماكرون أن يتخلوا عن الدينامية التي يمثلها المرشح الفائز، والذي قد يمنحه الشعب الفرنسي أغلبية مريحة لتمرير برنامجه الانتخابي، لكن شرط أن يقبل ماكرون ترشحهم على قائمته.
كما سيصعب كذلك على فيون أن يقدم نفسَه باعتباره "القائد الطبيعي"، وأن يقود الانتخابات التشريعية، في الوقت الذي يتهمه كثيرون من أعضاء حزبه بأنه تسبب في هزيمتهم وحرمانهم من منصب رئيس جمهورية ومن أغلبية برلمانية كانا في متناول اليد، خصوصا بعد حصيلة مخيبة للآمال لولاية هولاند الرئاسية.
قبل سنوات من انهيار الحزبين الكبيرين، اليميني واليساري، في اليونان، لم يكن أحد يتصور أن الشيء ذاته سيحدث في فرنسا. ولكن هذا الشاب، ماكرون، حديث العهد نسبيا بالسياسة، ووريثة جان-ماري لوبان، استطاعا إحداث زلزال سياسي في فرنسا لم يكشف كل أسراره ولن تتوقف ارتداداته قريبا.