تتجه الأنظار اليوم الثلاثاء، إلى العاصمة الكازاخية أستانة، التي تستضيف جولة جديدة من مفاوضات معقدة، تتعلق بمستقبل المناطق التي تقع تحت سيطرة المعارضة السورية، التي قررت الذهاب إلى المفاوضات، وسط خشية أنها لن تكون لصالحها، وتكرس واقع سيطرة قوى إقليمية ودولية، ربما يتحول إلى دائم، ما يؤدي إلى تشظي البلاد. وينعقد اجتماع "أستانة 5" في ظروف شديدة التعقيد، إذ من المتوقع أن يكون محطة مهمة في مسار صراع يتجه إلى مزيد من التأزيم، وينذر بالانزلاق إلى مستويات أكثر خطورة في ظل انسداد آفاق حل سياسي مستدام.
وتنطلق اليوم الثلاثاء أعمال الجولة الخامسة من مسار أستانة، بعد تأجيل لعدة مرات بسبب عدم توصل الثلاثي الضامن لاتفاق التهدئة لتفاهمات نهائية تتعلق بخرائط مناطق خفض التصعيد في سورية، التي تم الاتفاق عليها في الجولة الرابعة من أستانة في 4 مايو/أيار الماضي. وقالت مصادر إعلامية إن جدول أعمال "أستانة 5" يتضمن "موضوع مكافحة الإرهاب"، و"تنسيق البيانات المتعلقة بمذكرة مناطق خفض التصعيد، ووقف النشاط العسكري في تلك المناطق، بما فيها تحليق الطيران، على أن يتم إقامة مراكز تفتيش على حدود هذه المناطق، إضافة إلى نشر مراكز مخصصة لمراقبة الهدنة". كما يبحث "أستانة 5" موضوع "تشكيل اللجنة السورية للمصالحة الوطنية"، بالإضافة إلى "مناقشة مسائل متعلقة بإيصال المساعدات الإنسانية وإعادة إعمار البنية التحتية في سورية".
وأعلن وزير خارجية كازاخستان، خيرت عبدالرحمنوف، أن المعارضة السورية المسلحة أكدت مشاركتها في الجولة الخامسة من مفاوضات أستانة، مشيراً إلى أن "المراقبين في عملية أستانة سيصلون كذلك إلى العاصمة الكازاخية، وأبرزهم القائم بأعمال مساعد وزير الخارجية الأميركي للشرق الأوسط، ستيوارت جونز". وأكدت مصادر أن مستشار وزير الخارجية الأردني، نواف وصفي التل، سيترأس وفد بلاده في الاجتماعات التي تستمر يومين. كما من المتوقع أن يصل المبعوث الأممي الخاص إلى سورية، ستيفان دي ميستورا، للمشاركة في المفاوضات. وعلمت "العربي الجديد" أن وفد قوى الثورة العسكري سيشارك في "أستانة 5" رغم تحفظه على المخرجات المتوقعة للاجتماعات، ورفضه للدور الروسي والإيراني في مستقبل سورية. وأكدت مصادر مطلعة أن مشاركة المعارضة جاءت بعد "تمنيات" تركية بعدم مقاطعة الاجتماعات، حتى لا تعطي النظام وحلفاءه ذرائع جديدة لقضم المزيد من مناطق سيطرتها في عموم سورية.
وقضى اتفاق "خفض التصعيد"، الذي أبرم بين الثلاثي الضامن لاتفاق التهدئة، روسيا وإيران وتركيا، على إقامة أربع مناطق آمنة في سورية لمدة ستة أشهر على الأقل "بهدف وضع نهاية فورية للعنف، وتحسين الحالة الإنسانية، وتهيئة الظروف الملائمة للنهوض بالتسوية السياسية للنزاع في سورية". ويقوم الاتفاق على إنشاء أربع مناطق يخفف فيها التصعيد. وتشمل المنطقة الأولى كامل محافظة إدلب شمال غربي سورية، والتي تسيطر عليها المعارضة السورية، كما تشمل بعض أجزاء جوار إدلب في ريف اللاذقية الشمالي، حيث لا تزال المعارضة تحتفظ بوجود فيه، وفي شمال حماة، وريف حلب الغربي. وتشمل المنطقة الثانية ما بقي تحت سيطرة المعارضة في ريف حمص الشمالي والشمالي الغربي، ويتضمن بلدات مهمة، منها الرستن، وتلبيسة وقرى في محيطهما. فيما تضم المنطقة الثالثة، الغوطة الشرقية لدمشق، والتي تقع تحت سيطرة المعارضة منذ عام 2012، وتضم بلدات مهمة، منها دوما، وحرستا، وعربين، وزملكا وسواها. وتشمل المنطقة الرابعة بعض مناطق جنوب سورية في محافظتي درعا والقنيطرة، في المثلث السوري الأردني الإسرائيلي. وأكدت مصادر مطلعة أن المنطقتين الأولى والرابعة ما زالتا محل خلاف بين الأطراف المعنية، إذ يريد الأردن إبعاد المليشيات التابعة إلى إيران نحو 30 كيلومتراً عن حدوده الشمالية، فيما يريد النظام السوري وجوداً رمزياً على كامل الحدود السورية الأردنية، خصوصاً على معبر نصيب الحدودي. وأشارت المصادر الى أن إسرائيل ليست بعيدة عما يجري على صعيد إرساء التفاهمات حول المنطقة الرابعة، التي تقع على حدودها الشمالية، والتي باتت مصدر قلق دائم لها. كما يشوب الغموض المنطقة الأولى، إذ تكتظ محافظة إدلب بعدد كبير من فصائل المعارضة السورية، إلى جانب وجود قوي لـ"هيئة تحرير الشام" غير المشمولة باتفاق التهدئة، ما يفتح الباب أمام تساؤلات تتعلق بمدى قدرة أي تفاهمات على الصمود طويلاً. ومن غير الواضح بعد مآل المنطقة الثالثة، إذ لا يزال النظام يضغط عسكرياً وإنسانياً على الغوطة الشرقية، بذريعة وجود مقاتلين تابعين إلى "هيئة تحرير الشام" فيها، في مسعى لإخضاعها لسلطته مرة أخرى.
وتنظر المعارضة السورية المسلحة بعين "السخط" إلى مخرجات مسار أستانة، لإدراكها أن مآلات هذه المخرجات ستكون كارثية على مستقبل البلاد، وتكرس واقع سيطرة لقوى إقليمية ودولية، ربما يتحول إلى دائم ما يؤدي إلى تشظي البلاد. وفي هذا الصدد، قال لؤي عبد الملك، عضو المكتب السياسي في حركة "أحرار الشام" كبرى فصائل المعارضة السورية المسلحة، إنه "لا يمكن أن يكون العدو الإيراني المحتل ضامناً لأي اتفاق أو عملية سياسية، وكذلك لا يمكن أن يكون العدو الروسي راعياً لأي عملية سياسية"، معتبراً أنّهم "موغلون في دماء الشعب السوري، ومجازرهم المروعة بحق السوريين لم تتوقف بعد". وأضاف عبد الملك، في حديث مع "العربي الجديد"، إن "أي هدنة لا تشمل كل المناطق المحررة وكل الفصائل الثورية مرفوضة تماماً، ولا يمكن القبول بها بأي شكل من الأشكال"، لافتاً إلى أن الحركة "لا تملك معلومات دقيقة عن آلية تطبيق ما تم التوافق عليه في أستانة". وأكد أن الحركة "تؤمن أنه لا بد من حل سياسي، كون كل الصراعات تنتهي دائماً بحل سياسي"، مضيفاً لكن إما أن تكون الطرف القوي وتفرض شروطك على الطاولة أو أن تكون الطرف الضعيف فيفرض عدوك شروطه. ويوضّح عبد الملك أن الحركة "تؤمن بمسار الحل العسكري الملازم للمسار السياسي ليكون ذلك ورقة ضغط على طاولة المفاوضات". وتابع "عدونا لا يفهم إلا لغة القوة، وبالتالي لا يوجد لدينا مشكلة في المشاركة بأي عملية سياسية، شرط أن تحقّق أهداف ثورتنا والثوابت التي وضعناها، ولا يمكن التنازل عنها إطلاقاً".
وأكد عبد الملك أن الأتراك "حلفاء للثورة السورية"، مضيفاً إن "الجانب التركي هو رئة الثورة السورية، ولكن بالنسبة لموقفنا من دخولهم إلى الشمال السوري المحرّر فإن قيادة الحركة متمثّلة بمجلس الشورى تدرس هذا الأمر وتبعاته، سواء كانت إيجابية أم سلبية"، موضحاً أن "الأمر ليس أبيض أو أسود كما يظن بعضهم، لأن سيناريوهات التدخّل التركي في الشمال السوري كثيرة، إضافة إلى أن آلياتها غامضة". وتابع "الأصل عندنا هو رفض أي تدخل غير سوري في أراضينا، لكن واقعنا المعقّد وكثرة الأعداء ووجود قواعد عسكرية دولية على الأرض ومليشيات إرهابية، كتنظيم داعش، والحشد الشعبي وما يسمى قسد (قوات سورية الديمقراطية)، إضافة إلى واقع التفرقة والشرذمة والاستقطاب الحاصل في الشمال المحرر يجعل الموضوع قابلا للنظر والدراسة بشرط أن يحقّق المصالح الكبرى للحركة والسوريين، ويحافظ على سيادة واستقلال قرار الحركة". ويأتي حديث عبد الملك في خضم استعدادات تركية لتدخل جديد في شمال سورية، من المرجح أن يبدأ بعد انتهاء أعمال "أستانة 5"، إذ أكدت مصادر مطلعة أنه سيكون واسعاً، ويشمل جانباً من ريف حلب الغربي، وكامل محافظة إدلب. كما تهدف أنقرة من وراء العملية إلى وأد أي محاولة من الوحدات الكردية لتوسيع نطاق سيطرتها حول مدينة عفرين في شمال غربي مدينة حلب، خصوصاً باتجاه المنطقة ما بين مدينتي إعزاز وجرابلس في شمال سورية. ومن المرجح أن تدفع العملية التركية الوحدات الكردية للانسحاب من مدينة تل رفعت وقرى في محيطها، غالبية سكانها عرب، كانت سيطرت عليها في فبراير/شباط من العام الماضي إبان الخلاف التركي-الروسي.