أما الأمم المتحدة، فقد أكدت، في تقريرٍ لها، نشاط المقاتلين المرتزقة في ليبيا، فيما تحدثت تقارير أخرى عن مثلث السلاح المدفوع بين ليبيا وتشاد والسودان.
وفي ما خصّ حفتر تحديداً، فإن الإثباتات تزايدت، منذ منتصف العام الماضي، على وجود مقاتلين مرتزقة داخل صفوف قواته، وهي تشكل مكوناً رئيسياً لها، ما جعل الأمر يتجاوز مسألة الإثبات، إلى التحقيق في مسائل أخرى، تتعلق بانتماءات هؤلاء، وأعدادهم، ومصادر تمويلهم.
المرتزقة الروس
المرتزقة الروس هم الأكثر غموضاً من حيث الدور والعدد، بين المرتزقة في ليبيا. وفيما تأكد وجودهم من خلال تقارير سابقة تحدثت عن استعانة نظام القذافي بهم، إلا أن وجودهم داخل معسكرات خليفة حفتر لا يزال بعيداً عن الأضواء.
وكان أول ظهور للمرتزقة الروس في ليبيا قد حصل في مارس/آذار من العام الماضي، عندما أكد أوليغ كرينيتسين، رئيس مجموعة "آر إس بي" غروب (Russian Security System) الأمنية الروسية، وجود قوة تتألف من بضع عشرات من المتعاقدين الأمنيين المسلحين من روسيا، في ليبيا، يعملون في المناطق التي يسيطر عليها حفتر (الذي كان يسعى حينها للسيطرة على ميناءي السدرة وراس لانوف). وفي تأكيد على أنهم مرتزقة، قال كرينيتسين إن هذه المجموعة لا تعمل مع اللواء الليبي المتقاعد، بناءً على تعلميات من وزارة الدفاع الروسية، وأنهم موجودون فقط كمتعاقدين مع جهات تابعة لحفتر، من دون أن يشرح شكل التعاقد وطبيعته.
وفي تصريح لاحق له لوكالة "رويترز"، كشف كرينيتسين، أن شركته ليست شركة عسكرية، قائلاً إن خبراء الشركة الذين وُجدوا في ليبيا "قاموا بإزالة ألغام من مؤسسات هامة في هذا البلد"، وفقاً لـ"عقد مدني" وُقع مع الجانب الليبي.
وأوضحت "آر إس بي" حينها أن الشركة تعمل اعتماداً على الطلب الرسمي من الدول، لافتةً إلى أن العملية الليبية "لم تكن استثناءً، ونفذت مع كامل الالتزام بالمعايير الدولية"، فيما نفت وزارة الخارجية الروسية علمها بوجود متعاقدين تابعين لهذه الشركة على الأراضي الليبية، خلال شهر مارس/آذار 2017.
لكن التأكيدات الليبية جاءت على لسان عضو مجلس النواب الليبي، أبوبكر بعيرة، الموالي لحفتر، في تصريح قال فيه إن مثل هذه العمليات "ذات طبيعة أمنية خاصة"، وإن متعاقدي "آر إس بي" الروسية جاؤوا من أجل نزع الألغام من إحدى المناطق الصناعية.
مهام المرتزقة
لكن مسؤولاً أمنياً مقرباً من البرلمان المنعقد في مدينة طبرق شرق ليبيا، والموالي لحفتر، كشف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن شركة "آر إس بي هي شركة أمنية معنية بتأمين مواقع حيوية وعسكرية في بنغازي وطبرق". وأوضح هذا المسؤول أن سبل دخول المرتزقة إلى ليبيا ومهماتهم وطبيعتهم تتلخص في قسمين رئيسيين: الأول عبر الشركات الأمنية الخاصة، والتي لا يمكن حصرها في ليبيا، وهي تقوم بأعمال حماية شخصية لبعض السياسيين أو العسكريين، أو حماية لمواقع النفط والمعسكرات والمواقع الحيوية. أما النوع الثاني، فهي الشركات العسكرية الخاصة، التي تشارك من خلال قواتها الخاصة، في "عمليات قذرة"، كاقتراف المجازر، أو توفير عناصر مقاتلة للمشاركة في المعارك.
أما بالنسبة إلى القسم الأول، فشرح المصدر أنه "بالإمكان تأكيد وجوده في ليبيا منذ عام 2011، وبشكلٍ كبيرٍ، فبعد انهيار الوضع الأمني، رغبت الشركات الأجنبية العاملة في ليبيا في حماية مصالحها، فدخلت هذه الشركات عن طريقها، لكن سُجل انحيازها في ما بعد إلى أحد طرفي الصراع"، لافتاً إلى أنه "في شرق ليبيا، يوجد منها ما لا يقل عن 70 شركة، يختلف حجمها وعديدها بحسب مهامها، وإن كان أبرزها آر اس بي الروسية، وغاردا وورلد الكندية ("غاردا" من أكبر الشركات الأمنية في العالم- تأسست في عام 1995- وازدهرت مع الغزو الأميركي للعراق وأفغانستان)".
وبالنسبة للقسم الثاني، فيمكن القول إن للروس دورا كبيرا في هذا المجال، لاسيما عن طريق "مجموعة فاغنر" الشهيرة، بتوفير المقاتلين المرتزقة، التي أوصلت إلى قاعدة طبرق وقاعدة بنينا في بنغازي، ومن ثم قاعدة الجفرة، ما لا يقل عن 31 فنياً من أوكرانيا وبلاروسيا، لصيانة أسلحة حفتر روسية الصنع، بالإضافة إلى سبعة خبراء أمنيين، لبناء شبكات استخبارية لصالح اللواء المتقاعد. وهؤلاء الخبراء "يعلمون بالتنسيق مع الاستخبارات المصرية أيضاً"، بحسب المصدر، لافتاً إلى أن طيارين لم يحدد عددهم من بلاروسيا، هم من يقودون الطيران الإماراتي المرابط في قاعدة عسكرية جنوب المرج".
وكشف المصدر كذلك عن وجود واسع لشركة "بلاك ووتر" الأمنية الخاصة، لصاحبها إيريك برينس، الذي تتطوع مؤخراً باقتراح إرسال قواته لمنع تدفق المهاجرين من ليبيا إلى أوروبا.
وبحسب المصدر، فقد زار خبراء "بلاك ووتر" مناطق ليبية عدة، معتبراً أن "رصد أعمالهم هو غاية في الصعوبة في ليبيا"، كما أن "قيادة حفتر تتعامل معهم بحذر، من خلال مسؤولي دولة الإمارات، إذ أن لشركة بلاك ووتر اتصالاً بخصوم حفتر أيضاً". لكن "المؤكد"، بحسب المصدر، يبقى أن "شركةً تعمل لصالح بلاك ووتر درّبت، بوساطة إماراتية، ثلاث فرق خاصة تعمل بالقرب من حفتر منذ أكثر من عام (أكده موقع انتليجنس أونلاين)".
ويلفت المصدر، استطراداً، إلى "حليف مهم بالنسبة لمعسكر حفتر، وهو الوسيط الاستخباري الإسرائيلي، آري بن مناشي، الذي نقلت عنه صحيفة نيويورك تايمز مؤخراً أنه منسق زيارة الناقلة الروسية إلى شرق ليبيا، والتي اعتلاها حفتر للقاء مسؤولين روس بارزين (بداية 2017)"، مشيراً إلى أن بن مناشي يعتبر وسيطاً مهماً بين حفتر وشخصيات روسية بارزة من جهة، وبينه وبين فاعلين في دوائر صنع القرار الأميركي من جهة أخرى، وبالتالي من الممكن جداً أن يكون قد وفّر له مقاتلين أو فنيين، وحتى سلاحا".
المقاتلون
المرتزقة المقاتلون في ليبيا، هم أكثر انخراطاً في جبهات القتال، ويتألفون من مسلحي حركات التمرد الأفريقية المعارضة. وهم بأغلبهم إما من متمردي الحركات التشادية المعارضة، وإما من متمردي "حركة العدل والمساواة" السودانية.
وبالنسبة للمرتزقة الذين يتشكلون من متمردي الحركات التشادية المعارضة، فهم الأقل وجوداً في صفوف قوات حفتر، آخذاً بالاعتبار العلاقة الوطيدة التي تربط الأخير بالرئيس التشادي إدريس ديبي، الذي لم يتمكن حفتر كثيراً من الاستعانة بمعارضيه، باستثناء العلاقة التي ربطته بالعقيد محمد سرور، المُعارض التشادي، خلال 2016، قبل أن يُقتل سرور في ظروف غامضة أوائل العام الماضي، وتتحول مليشياته إلى قوة لا تتوقف عن الإغارة على معسكرات حفتر، ما دفع اللواء المتقاعد إلى إطلاق حملة على نقاط تمركزها في واحة ربيانة، أقصى الجنوب الليبي، مؤخراً.
لكن عناصر تشادية أخرى توجد بالتنسيق مع حكومة إدريس ديبي رسمياً في صفوف حفتر، وهم مسلحون من قبائل التبو، الممتدة من ليبيا إلى داخل تشاد، والتي تشارك رسمياً في معارك الجنوب، كان آخرها المعارك التي تجري للسيطرة على مقارّ "حكومة الوفاق" في سبها. ويقدر مصدر محلي عدد هؤلاء المرتزقة بـ200 مسلح، مزودين على الأقل بـ50 آلية عسكرية، وأسلحة متوسطة.
أما مقاتلو "حركة العدل والمساواة" السودانية، وتحديداً جناح "مني أركو مناوي"، فهم الأكثر تواجداً مع قوات حفتر، وهم يتمركزون في أم الأرانب، والقطرون، وسبها، ومحيط الكفرة، وصولاً إلى مناطق جنوب الهلال النفطي، وتحديداً منطقة زلّة.
وفيما لم تشر تقارير رسمية إلى حجم وجودهم وتسليحهم في ليبيا، إلا أن تقارير إعلامية سودانية أشارت إلى أن أركو مناوي نفّذ هجوماً على الأراضي الدارفورية من داخل الأراضي الليبية قبل شهرين، بمشاركة 700 مقاتل و300 عربة مسلّحة، وهي تقديرات تشير إلى قوة هذا الجناح الموجود داخل قوات حفتر، حيث من المؤكد أنه لم يستخدم كل قواته في هذا الهجوم، ما يثبت امتلاكه مقاتلين مرتزقة منهم يفوق هذا العدد.
التسليح
لا يبدو أن شكل الحرب في ليبيا يقتضي حصول أو امتلاك المقاتلين المرتزقة أسلحة متطورة، فمن هم منهم في الجبهات، يظهر أنهم يتزودون بذات الأسلحة التقليدية التي يستخدمها مقاتلو حفتر. أما شركات الأمن الخاصة، فيتمّ تسليحها عادة بالأسلحة المتوسطة والخفيفة، لأغراض الحماية والتأمين، وهي أسلحة توفرها في العادة تلك الشركات ضمن العقود المبرمة معها. أما المرتزقة الأكثر خبرة، فيتمّ جلبُ أغلبهم لقيادة طائرات مقاتلة، (مثال الطائرات الإماراتية التي تدعم قوات حفتر)، أو يقومون بأعمال الصيانة العسكرية في الورش البعيدة عن خطوط الحرب.
التمويل
من واقع ما سبق، يمكن القول إن المرتزقة القادمين إلى ليبيا عبر الشركات الأمنية أو العسكرية الخاصة، يحصلون على مقابل مالي سخي، لاسيما أن هذه الشركات تتعامل من خلال عقود محددة.
وحول ذلك، شرح المصدر لـ"العربي الجديد"، أن "منظومة إدارة حفتر تختلف عن الأنظمة الأخرى التي يمكن رصدها ومراقبتها، فهو لا يعمل إلا من خلال مراقبين يثق فيهم بشكلٍ كبير، أو من خلال دول حليفة له، وبالتالي يغيب جزء كبير من حجم الأموال التي تدفع لهذه الشركات والوسطاء". لكنه يضيف أنه "يمكن تقدير عمليات حفتر في شراء الأسلحة وتمويل المرتزقة ومرتبات مقاتليه، بثلاثة مليارات دينار ليبي (الدولار يساوي 1.40 دينار ليبي)، وهو رقم واقعي، لاسيما حين نعلم أن روسيا قامت بطباعة أربعة مليارات دينار ليبي لصالح المصرف المركزي الليبي التابع لحفتر في مدينة البيضاء، الذي استلم فقط ملياري دينار، ليوزعها على المصارف، بينما ذهبت الثلاثة مليارات الأخرى، إلى جيب حفتر، لتمويل عملياته الخاصة".
وأضاف: "أما بالنسبة للمقاتلين الأفارقة، فأغلبهم متمردون مطرودون من بلادهم، وبالتالي فإن إتاحة حفتر أرضاً لهم ليوجدوا فيها هو مقابل جيد، كما أنه أطلق يدهم لممارسة أنشطة يمولون بها أنفسهم تتمثل في تجارة البشر والممنوعات والأسلحة، بل حتى الخطف، من أجل المال"، مُذكراً بأن مسلحي حركات التمرد الأفريقية "فقراء جداً، ولا يطالبون بمقابل مادي مرتفع".
المرتزقة في التقارير الدولية
يُذكر أن تقريراً لـ"سمول أرمز سورفاي" (small arms survey)- وهي مشروع بحث مستقل في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية في جنيف- صدر في يونيو/حزيران 2017، خلص إلى أن الفوضى الليبية جذبت مقاتلين من شمال تشاد ودارفور، ما "يضع مثلث تشاد- السودان- نيجر في قلب نظام إقليمي من الصراعات المسلحة". وبحسب التقرير، فقد "أدى ذلك إلى ظهور سوق إقليمية من المقاتلين العابرين للحدود"، أطلق عليها اسم "أسلحة للإيجار"، وهي "تؤمّن الخدمات بتوفير رجال مليشيا ومرتزقة وعصابات تهريب وسرقة".
وفي يناير/كانون الأول الماضي، أكد خبراء تابعون للأمم المتحدة وجود مجموعات متمردة من دارفور تعمل كـ"مرتزقة" داخل ليبيا، وتقاتل إلى جانب بعض الفصائل الليبية، ومتورطة في تهريب المهاجرين والسلاح والوقود. وخص تقرير الخبراء بالذكر حركة "جيش تحرير السودان"، بقيادة مني مناوي، و"المجلس الانتقالي لحركة تحرير السودان" بقيادة الهادي إدريس يحيى، قائلاً إنهما المجموعتان الرئيسيتان الناشطتان في ليبيا.
وجاء في التقرير الذي اعتمد على معلومات مفصّلة ووثائق رسمية وصور، أن "حركة جيش تحرير السودان" هي أكبر مجموعة سودانية مقاتلة في ليبيا، وتقاتل إلى جانب قوات حفتر.
وفي ملحق خاص، قال التقرير إن "تحرير السودان" لديها مئات المقاتلين في ليبيا وما يقرب من 150 مركبة، مضيفاً أن القيادة العسكرية للحركة في ليبيا تضم رئيس أركانها، جمعة حجار، ونائبه، وقيادتها تتلقى رواتب مباشرة من حفتر.
وقال التقرير إنه من الأفضل اقتصادياً بالنسبة للفصائل الليبية استخدام مرتزقة أجانب، لأن "مقتل مواطن ليبي خلال الاشتباكات يدفع قبيلته إلى المطالبة بالحصول على فدية، وتلك العملية لا تنطبق على المقاتلين الأجانب".
وكشف التقرير الأممي عن أن المقاتل السوداني يحصل على أجر شهري يتراوح بين 250 و500 دولار، إلى جانب الأسلحة والذخيرة، وأن مقاتلي دارفور طلبوا مؤخراً زيادة أجورهم مع تراجع الدينار الليبي.