حركات التمرّد في السودان... ذريعة النظام لاستهداف الحراك الشعبي

10 فبراير 2019
اتهمت السلطة حركات التمرد باستغلال الاحتجاجات لزعزعة الأمن(فرانس برس)
+ الخط -
منذ انطلاق أول شرارة للحراك الشعبي  في السودان ضد الرئيس عمر البشير، لم تتردد الحكومة، على كافة مستوياتها، في ربطه بحركات التمرد التي تنشط في إقليم دارفور ومنطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق. ففي الأيام الأولى للحراك، الذي اندلع في 19 ديسمبر/كانون الأول الماضي، خرج مدير جهاز الأمن والاستخبارات، الفريق أول صلاح عبد الله قوش، في مؤتمر صحافي، ليوجه الاتهام إلى "حركة تحرير السودان" بزعامة عبد الواحد محمد نور، بالتورط في ما اعتبره عمليات تخريب واستغلال الاحتجاجات السلمية بغرض زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد. وحاول قوش تقديم أدلة على ذلك، عبر الإعلان عن توقيف خلية مكونة من أكثر من 20 فرداً تتبع لمجموعة محمد نور، دُرب بعضها في إسرائيل، دخلت البلاد عبر البوابة الكينية، وأنها اندست وسط المتظاهرين في عدد من المدن، مشيراً إلى أن القبض على معظم أفراد المجموعة تم في مدينة دنقلا شمال السودان.

كما أعلنت السلطات الأمنية أنها دهمت منزلاً في منطقة الدورشاب شمال الخرطوم، خاصاً بخلية تتبع أيضاً إلى محمد نور، وأن أحد أفراد الخلية قتل أثناء المداهمة. كما بث التلفزيون اعترافات قيل إنها لخلية ثالثة في مدينة سنار جنوب السودان كُلفت بذات المهام التي يتحدث عنها جهاز الأمن والاستخبارات. وقد كرر وزيرا الإعلام والداخلية ذات الاتهامات، لكن البشير نفسه، وفي أكثر من خطاب جماهيري، مضى أبعد من ذلك حين برأ ساحة حكومته من قتل المتظاهرين السلميين، محملاً المسؤولية إلى حركة عبد الواحد محمد نور، مستشهداً بحادثة مقتل الطبيب بابكر عبد الحميد، الذي ذكر أنه قتل بسلاح لا تمتلكه القوات الحكومية.

كل تلك الاتهامات نفتها "حركة تحرير السودان" من خلال بث مباشر لرئيسها محمد نور على "فيسبوك"، كما استهجنتها قوى المعارضة التي تحرك التظاهرات في الخرطوم، واعتبرتها واحدة من الفزاعات التي تريد الحكومة عبرها تخويف المتظاهرين للحد من موجة الاحتجاجات. ووصف البعض التركيز على توقيف أبناء دارفور واتهامهم المستمر بالتخريب بأنه شكل من أشكال العنصرية. وحاولت المعارضة مواجهة هذا الأمر، عبر تسويق هتاف "يا العسكري المغرور كل البلاد دارفور". لكن الاتهام أعاد الجدل حول ماهية الحركات المسلحة وعددها، وموقفها من الحراك الشعبي في البلاد ومستقبلها السياسي حال نجح الحراك الشعبي في الإطاحة بالحكومة. ويبدو أن من الصعب إحصاء الحركات المتمردة في دارفور، فقد شهدت تلك الحركات عملية انشطار مستمر منذ بروزها على المشهد في العام 2003، تاريخ اندلاع التمرد في الإقليم، غير أن ثلاثا منها ظلت حاضرة بقوة على الساحة.

حركة عبد الواحد محمد نور

أول تلك المجموعات، "حركة تحرير السودان"، بقيادة عبد الواحد محمد نور، التي نشطت عسكرياً في مناطق جبل مرة. وتُعد بكل المقاييس الحركة الأم للتمرد في الإقليم، ومنها تناسلت معظم الحركات. وعلى الرغم من ضعفها العسكري إلا أنها تحتفظ بتأييد جماهيري كبير في مراكز النزوح داخل الإقليم وفي معسكرات اللجوء خارج السودان. وباستثناء مشاركتها في مفاوضات العاصمة النيجيرية أبوجا في العام 2006، فقد رفضت الحركة الدخول في أية مفاوضات مع الحكومة، ولها شروط مسبقة، لا يمل محمد نور من تكرارها في كافة المحافل، منها محاكمة المتورطين في انتهاكات "الإبادة الجماعية" وطرد "المستوطنين الجدد" وتعويض النازحين واللاجئين عما لحق بهم طوال سنوات الحرب. كما أن رؤيتها لحكم البلاد تقوم على إقامة نظام علماني ديمقراطي.

ولا تتوقف مواقف الحركة عند حد عدم الاقتراب من الحكومة، بل إنها تعزل نفسها عن أي تحالفات مع الأحزاب السياسية والحركات المسلحة الأخرى، بما في ذلك "تحالف الجبهة الثورية"، الذي يضم حركات متمردة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان. كما أنها عزلت نفسها عن "تحالف نداء السودان" المكون من حركات مسلحة وقوى مدنية تنشط في الداخل. الأمر الوحيد الذي قامت به هو دعم الحراك الشعبي الحالي أكثر من مرة عبر بيانات رسمية ومخاطبات رسمية لرئيس الحركة عبد الواحد محمد نور. وعلى الرغم من هذا الدعم فإن مراقبين لا يرون وجوداً فعلياً لكوادر الحركة في الاحتجاجات، كما لم تشهد بعض مدن دارفور، التي تنطلق منها الحركة، احتجاجات مماثلة لتلك التي خرجت في مدن أخرى.

حركتا "التحرير" و"العدل"

من الفصائل الأخرى، هناك "حركة تحرير السودان" بزعامة ميني أركو ميناوي، التي انشقت في العام 2005 عن حركة عبد الواحد محمد نور، ووقعت في أبوجا في 2006 على اتفاق مع الحكومة السودانية شاركت بموجبه في الحكومة، وشغل ميناوي بموجبه منصب كبير مساعدي رئيس الجمهورية. إلا أن ذلك الاتفاق لم يصمد طويلاً، إذ سرعان ما عادت الحركة إلى التمرد في العام 2007، لتدخل في أحلاف مع الحركات الأخرى، خصوصاً "حركة العدل والمساواة"، إذ ظلت الحركتان في تحالف شبه استراتيجي خلال الفترة الأخيرة.


أما "حركة العدل والمساواة" فهي محسوبة على التيار الإسلامي. وساد اعتقاد كبير في فترات سابقة بأنها موالية إلى "حزب المؤتمر الشعبي" المنشق عن "حزب المؤتمر الوطني"، لكن الطرفين نفيا مراراً هذا الأمر. وأسس "حركة العدل والمساواة" واحد من قادة الحزب الحاكم، هو خليل إبراهيم الذي قتل في غارة جوية في العام 2011، بعد أن قاد في العام 2008 عملية عسكرية على أم درمان باسم "الذراع الطويل". ومن خلال التحالف الاستراتيجي بين "العدل والمساواة" وحركة ميناوي، فقد دخلت الحركتان في مفاوضات مع الحكومة أكثر من مرة، وكان من المقرر أن تشهد العاصمة القطرية الدوحة جولة مفاوضات جديدة  منتصف الشهر الماضي، غير أن الحركتين قررتا، بحسب بيان صدر عن كل منهما، مقاطعتها دعماً للحراك الشعبي في البلاد واحتجاجاً على قتل المتظاهرين.

"الحركة الشعبية" قطاع الشمال

ظلت "الحركة الشعبية لتحرير السودان" تقاتل في جنوب السودان والنيل الأزرق وجنوب كردفان منذ العام 1983، تحت قيادة زعيمها الروحي الراحل جون قرنق. لكن، وبعد انفصال الجنوب عن السودان، انقسمت تلقائياً إلى نصفين، الأول يحكم في جنوب السودان والثاني عاد للقتال في منطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان. ونجح الأخير في 2013 في تأسيس تحالف للقوى العسكرية في البلاد تحت اسم "الجبهة الثورية"، لكن لم يكتب لها الاستمرار بذات قوة الدفع التي بدأت بها، وذلك بعد أن انشقت الجبهة إلى قسمين، واحد يقوده جبريل إبراهيم والثاني يقوده مالك عقار. وفي الوقت ذاته، تعرضت "الحركة الشعبية قطاع الشمال" العام الماضي لهزة عنيفة بعد أن ضربت الخلافات بين جناح رئيسها مالك عقار والأمين العام ياسر عرمان من جهة، وجناح نائب رئيسها عبد العزيز الحلو من جهة أخرى، ما أدى إلى انقسامها، وسط انحياز غالبية المقاتلين إلى فصيل الحلو. ولم يكن المكسب الميداني وحده لصالح جناح الحلو، بل إنه حصل على حق التفاوض مع الحكومة، إذ اعترف الاتحاد الأفريقي، الذي يتوسط في عملية السلام في السودان، بجناح الحلو، ما أدى إلى إبعاد جناح عقار وعرمان عن طاولة التفاوض بدعم وتأييد من الخرطوم. لذا كان الجناح الأخير الأكثر دعماً للحراك الشعبي المطالب بإسقاط البشير وحكومته، وأصدر بيانات يدعو فيها أنصاره للنزول إلى الشارع إلى جانب بقية القوى السياسية الأخرى. هذا بالإضافة إلى الرسائل شبه اليومية التي يوجهها نائب رئيس الحركة ياسر عرمان من على منصات مواقع التواصل الاجتماعي دعماً للثورة. وبذلك يبدو هذا الفصيل الأكثر حرصاً على نجاح الثورة السودانية بعد تضعضعه العسكري والسياسي.

ويبدو الفصيل الذي يقوده عبد العزيز الحلو، زاهداً كذلك في التنسيق مع القوى السياسية المعارضة، حتى في موضوع المفاوضات التي يرعاها الاتحاد الأفريقي، إذ رفض، كما رفضت الحكومة، مشاركة قوى "نداء السودان" فيها. لكن كان لافتاً تماماً بروز عضو وفده المفاوض والأستاذ في جامعة الخرطوم محمد يوسف أحمد المصطفي، كأحد الوجوه التي تقود تجمع المهنيين السودانيين، الأمر الذي حاولت الحكومة الاستفادة منه لتسويق فكرة تورط حركات التمرد في الاحتجاجات، وهو أمر تريد المعارضة إبعاد الشارع عنه، إذ إن تدخل الحركات المسلحة في حراك مدني سلمي قد يشوش سلباً على الحراك.