تزداد الدعوات إلى تحقيق شامل بشأن تدخل روسيا في انتخابات البلدان الأوروبية، وعلاقة الكرملين مع أحزاب وحركات يمينية متطرفة وشعبوية، بعد تسريبات صوتية وفضائح طاولت قادة هذه الأحزاب في إيطاليا والنمسا وفرنسا. وفي حين تنفي موسكو تدخلها في الانتخابات وشؤون الدول الداخلية، وتعزو الاتهامات الغربية إلى محاولات "شيطنة روسيا"، والتغطية على رفض شرائح واسعة في الولايات المتحدة وأوروبا للفكر الليبرالي الذي "عفا عليه الزمن" بحسب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، باتت موسكو قبلة لزعماء اليمين المتطرف الأوروبي بحثاً عن دعم سياسي ومالي. وفي المقابل، يزداد تأثير موسكو في أوساط رافضي العولمة، الداعين إلى التخلي عن الاتحاد الأوروبي والخروج منه.
منذ أيام، كشف موقع "بازفيد نيوز" الأميركي عن عقد اجتماعٍ في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي ضمّ مقربين من أقوى زعماء اليمين المتطرف في أوروبا، نائب رئيس الوزراء الإيطالي ماتيو سالفيني مع مسؤولين روس، بهدف التفاوض على شروط صفقة تقدم بموجبها روسيا عشرات الملايين من الدولارات، من عائدات النفط، لحزب "رابطة الشمال" الذي يتزعمه سالفيني. نشر الموقع تسجيلاً وتقريراً مرافقاً، قال إنه "لاجتماع ضم ست شخصيات في فندق فخم وسط موسكو، هم ثلاث روس وثلاث إيطاليون، من ضمنهم جيانلوكا سافيوني، أحد المقرّبين من سالفيني"، مشيراً إلى أن "الغرض الشكلي للاجتماع تمثل في إبرام صفقة شراء نفط، لكن الهدف الحقيقي تمحور حول تقويض الديمقراطيات الليبرالية وتشكيل أوروبا القومية الجديدة المتحالفة مع موسكو". وعلى الرغم من نفي زعيم حزب "رابطة الشمال" حصوله على أي مساعدات خارجية لتمويل حزبه، إلا أن التسجيل تضمن أدلة قوية على محاولات سرّية روسية لتمويل حركات قومية أوروبية، والتآمر الواضح لبعض الشخصيات الكبيرة من أقصى اليمين الأوروبي في تلك المحاولات.
وإضافة إلى جذب قادة اليمين المتطرف، يزداد البحث في دور روسي في نشر أخبار كاذبة عبر وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، ويدور الحديث عن وكالات الأنباء وشبكات التلفزة المدعومة من قبل الكرملين، فضلاً عن جيش من الموظفين المكلفين بالتأثير في الحياة السياسية في أوروبا أثناء حملات انتخابية أو استفتاءات مفصلية.
بدا واضحاً بعد انتخاب الرئيس فلاديمير بوتين لولاية ثالثة في عام 2012 (بعد عامي 2000 و2004)، التركيز على دور روسيا العالمي كقوة محافظة في وجه القيم الليبرالية والانحلال الأخلاقي والأسري في الغرب، بحسب التصورات الروسية. وفي مواجهة التشكيك في الديمقراطية الروسية، اختار الكرملين التركيز على أن الفكر المحافظ يوفر الأمن والاستقرار، وهو الأهم من اتباع الديمقراطية الغربية. وشكلت استضافة سانت بطرسبورغ عام 2015 مؤتمراً ضم ممثلي الحركات القومية الأوروبية المتطرفة، ومنها تيارات نازية، سابقة في تاريخ روسيا التي طالما تفاخرت بأنها أنقذت العالم من النازيين، وخصوصاً أن المؤتمر نُظّم في مدينة (كان اسمها لينينغراد) عانت حصاراً من جيوش أدولف هتلر النازية، دام أكثر من ثلاث سنوات قضى فيه مئات الألوف من الجوع. ومنعت السلطات الروسية تنظيم تظاهرات احتجاجاً ضد المؤتمر الذي دعا إليه القومي ديمتري راغوزين رئيس حركة الوطن، أحد أبرز حلفاء بوتين الذي شغل مناصب حكومية عدة.
الحاجة الروسية لعلاقات متينة مع قوى اليمين المتطرف برزت في شكل واضح، بعد ضم شبه جزيرة القرم في ربيع 2014 وأحداث شرقي أوكرانيا، وما تلاها من عقوبات غربية على روسيا. ومعلوم أن معظم الحركات الشعبوية الأوروبية دعمت الخطوة الروسية. لكنّ خبيراً روسياً في العلاقات الدولية قال لـ"العربي الجديد"، إن "غاية الكرملين من العلاقات مع الحركات اليمينية، والتدخل في الانتخابات الأميركية والأوروبية تتجاوز الحصول على دعم في موضوع القرم وأوكرانيا، وتهدف أساساً إلى زرع الخلاف على ضفتي الأطلسي، وهو ما حصل بعد انتخاب دونالد ترامب بدعم روسي، إضافة إلى تفتيت أوروبا وحلف شمال الأطلسي. ما يدفع باتجاه تشكيل تحالف بين البلدان الأوروبية متفرقة مع روسيا، التي تطمح إلى دور عالمي أكبر، مستغلة مساحتها الكبيرة وعلاقتها الجيدة مع الصين لبناء فضاء أوراسي موحد من المحيط الهادي إلى الأطلسي".
ولفت الخبير الروسي إلى أن "موسكو تلقت ضربة قوية بعد طرد أكثر من 150 دبلوماسياً في البلدان الغربية العام الماضي، بعد حادثة تسميم الضابط السابق سيرغي سكريبال وابنته (مارس/آذار 2018)، ما اضطرها إلى تكثيف العلاقات مع القوى الداخلية في البلدان الغربية بعد فقدان شبكات تعمل لصالح روسيا كان يديرها هؤلاء الدبلوماسيون".
وكشفت تصريحات بوتين لصحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية، عشية قمة العشرين الأخيرة في أوساكا اليابانية، الشهر الماضي، أن "روسيا ماضية في طرح نفسها كقوة محافظة". وقال بوتين إن "الفكرة الليبرالية استنفدت غرضها، وأصبحت المعارضة الشعبية للهجرة وفتح الحدود والتعدد الثقافي والتسامح الاجتماعي واسعة للغاية"، مشيراً إلى أن "الحكومات الليبرالية لم تعمل على طمأنة المواطنين، وبدلاً من ذلك اتبعت تعدد الثقافات الطائش الذي يتبنّى، من بين أمور أخرى، المثلية الجنسية". واستدرك قائلاً: "ليست لدينا مشكلة في أن يصبح الجميع سعداء، لكن يجب ألا يُسمح لهذا بأن يلقي بظلاله على الثقافة والتقاليد والقيم الأسرية التقليدية لملايين الأشخاص الذين يشكلون غالبية السكان".
وبعد نحو 30 عاماً على زوال شعارات الأممية الشيوعية، يبدو أن موسكو تسعى إلى أن ترفع راية القيم المحافظة في العالم، فبعد فشلها في تبوؤ مكانة الاتحاد السوفييتي العالمية، الذي كان يتحكم بأكثر من نصف العالم أثناء الحرب الباردة (1947 ـ 1991)، لم يبرز دور روسيا عالمياً لأسباب موضوعية تتعلق بالضعف الاقتصادي، وفشل سياسات النخب التي قادت روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتي في تحقيق الاستقرار، وبسبب رفض الغرب منح روسيا مكانة في النظام العالمي الجديد والنظر إليها كخاسر يجب أن يتبع قيم الغرب كاملة. ولتحقيق هدفها ربما تكون روسيا وجدت ضالّتها في الأحزاب اليمينية والشعبوية الراغبة في الوصول إلى السلطة في أكثر من بلد أوروبي وإنهاء الاتحاد.