أحدث القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا هي "ريدزيكوو" Redzikowo، التي جرى تدشينها رسمياً منذ حوالي شهرين في بولندا، ولكنها تعمل منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا في 24 فبراير/شباط 2022، واستضافت قرابة ألفين من جنود مشاة البحرية "مارينز"، الذين تنحصر مهمتهم في تسيير نظام دفاع صاروخي متطور ضد هجمات الصواريخ الباليستية. وهو معروف باسم "آيجيس" Aegis، صُمّم كنظام للتحكم في الأسلحة "نظام أسلحة شامل، من الاكتشاف إلى القتل". يتتبع نظام الكمبيوتر والرادار الأسلحة ويوجهها لتدمير أهداف العدو.
بدأ بناء القاعدة في عام 2016 لضمان دفاع بولندا والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهي تقع في شمال بولندا، على بعد أقل من 200 كيلومتر من كالينينغراد، الجيب الروسي على بحر البلطيق. وإذا جرى حساب المسافة إلى البرّ الرئيسي الروسي، وتحديداً العاصمة موسكو، فإنها تبلغ 1305 كيلومترات.
قرّرت الولايات المتحدة إنشاء هذه القاعدة في شرق أوروبا بعد حرب روسيا على أوكرانيا، في إطار حسابات وخيارات وتداعيات الحرب، وهي تشكل انعطافة مهمة في التوجه الأميركي لتخفيف الوجود العسكري في أوروبا.
قواعد أميركية بين غرب أوروبا وشرقها
تمتلك القوات الأميركية وجوداً في أوروبا الشرقية بمواقع عديدة إلى جانب حلف الناتو، ولديها مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في بلغاريا، إستونيا، المجر، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، رومانيا، وسلوفاكيا. في حين أن القواعد الخاصة والحصرية للقوات الأميركية تتمركز في غرب أوروبا، وأغلبها يعود إلى حقبة الحرب الباردة، وجرى بناؤها لتكون في مواجهة الاتحاد السوفييتي القديم، وما كان يمثله من تهديد لأوروبا الغربية.
ساهمت الحرب الروسية على أوكرانيا في تكييف القواعد الأميركية في أوروبا لمساعدة كييف
ويعد عدد القواعد العسكرية الأميركية في أوروبا كبيراً، إذ تجاوز 50 قاعدة، ولكنه قليل بالمقارنة مع عددها الكبير عبر العالم خارج الولايات المتحدة، والذي يتجاوز 750 قاعدة، موزعة على كافة القارات، بهدف تغطية أراضي غالبية الدول الحليفة للولايات المتحدة، وعلى أساس مستوى التهديدات والمخاطر لمصالح أميركا وحلفائها.
وبحسب قياس مستوى التحديات الدفاعية والهجومية، يُنشر الجنود والأسلحة وتُقسّم المهام بين القواعد، فهناك قواعد تستضيف أسلحة الطيران والقاذفات الاستراتيجية، وأخرى المشاة والقوات المنقولة والبحرية والبرّية، وغيرها متخصصة بالصواريخ والرد على الصواريخ الباليستية، ويمتد توزيع الاختصاصات حتى الأسلحة النووية والحرب الإلكترونية.
يدخل في حساب ذلك موقع البلد الجغرافي وطبيعته بين البر أو البحر، ومدى قربه من روسيا والصين ومناطق التهديد المحتملة، وبالعلاقات التي تربط الدولة المستضيفة بالولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، التي فتحت الباب أمام الوجود العسكري الأميركي في أوروبا، وعلى كافة الجبهات.
وتتولى القواعد الأميركية في أوروبا تأمين مظلة دفاعية للقارة ضد كافة المخاطر بصورة عامة، ولكنها مصممة منذ الحرب العالمية الثانية على مواجهة تهديدات محددة، تلك التي كان يشكلها الاتحاد السوفييتي، وما تمثله روسيا حالياً.
خلال الحرب الباردة، نشرت الولايات المتحدة قوات في أوروبا الغربية بغرض ردع الاتحاد السوفييتي. كانت الغالبية العظمى في ألمانيا الغربية. في ذروة أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، جرى نشر أكثر من 400 ألف جندي أميركي في الدول الحليفة في جميع أنحاء القارة.
وساهمت الحرب الروسية على أوكرانيا بتكييف هذه القواعد لمساعدة كييف على مواجهة الهجوم الروسي، وتلبية حاجات الرد المباشر في حال توسعت الحرب نحو بلدان أخرى، والردع في حال تطور النزاع إلى استخدام أسلحة نووية. ولذلك جرى تحديث العديد منها، وإرسال قوات جديدة، ووقف اجراءات التخفيف العددي الذي كان قائماً على قدم وساق منذ نهاية الحرب الباردة، وتسارع بقوة في العقدين الأخيرين، حتى وصل عديد القوات الأميركية في كل أوروبا إلى حوالي 65 ألفاً.
يتوزع الثقل الأساسي للقواعد العسكرية الأميركية في ثلاث دول، هي ألمانيا التي تضم 21 قاعدة تشمل كافة أنواع الأسلحة والاختصاصات، وبريطانيا التي تستقبل 13 قاعدة أغلبها جوية وتستقبل قاذفات استراتيجية، وإيطاليا التي تضم عدداً مماثلاً من القواعد التي هي في أغلبها بحرية. وهناك قاعدتان بحريتان أخريان في إسبانيا وواحدة في البرتغال، وأخرى في جزيرة كريت اليونانية.
وبحسب التقارير العسكرية، فإنه يتمركز حوالي 70 ألف جندي أميركي بشكل دائم في أوروبا. وتستضيف ألمانيا حوالي نصفهم، ويقع مقر القيادة الأوروبية الموحدة للجيش الأميركي في شتوتغارت. ويشرف الجيش على خمس حاميات في ألمانيا، بينما يقع المقر الرئيسي لعمليات القوات الجوية الأوروبية في قاعدة رامشتاين الجوية.
وفي الوقت الذي يجرى فيه تعزيز الوجود التقليدي الأميركي في أوروبا الذي سبق انهيار الاتحاد السوفييتي، يتركز الجهد الأميركي على نشر قوات واستحداث قواعد في أوروبا الشرقية، ولكنه يجرى حتى الآن في إطار الـ"ناتو"، ويمكن رصد ذلك على نحو خاص في دول البلطيق، التي بات وضعها حساساً جداً بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، كما أخذت واشنطن تعزز حضورها في دول أخرى مثل رومانيا وبولندا، كونهما تشتركان بحدود مع أوكرانيا من جهة الغرب.
وبالإضافة إلى القواعد الثابتة والحصرية، يوجد 7 آلاف جندي أميركي إضافي في أوروبا في عمليات نشر دورية أقصر، كجزء من مهمة دعم حلف الأطلسي المسماة "أتلانتيك ريسولف". ويشمل ذلك قسم طيران يضم 85 طائرة هليكوبتر وفرقة مدرعة بمدفعية ودبابات. وتتمركز هذه القوات في بولندا.
أسئلة وأجوبة حول الانتشار الأميركي
هناك أسئلة تُطرح حول أسباب إرسال الولايات المتحدة كل هذه الأعداد الكبيرة من القوات، وإعادة تفعيل القواعد وإنشاء قواعد جديدة في أوروبا الآن، رغم أن الوضع السابق للحرب على أوكرانيا لم يكن هشّاً، حيث كان يوجد قرابة 65 ألف جندي أميركي في قواعد خاصة أو في إطار الـ"ناتو".
هناك أكثر من إجابة، منها أن الولايات المتحدة تستخدم تحركات القوات لإرسال إشارات ورسائل سياسية وعسكرية. وفي هذه الحالة، فإن الإشارات موجهة إلى الحلفاء في أوروبا بقدر ما هي موجهة إلى روسيا، التي حشدت أكثر من 100 ألف جندي وعتاد عسكري بالقرب من الحدود الأوكرانية، بدعوى أن التعزيزات جزء من التدريبات، ولكنها لم تلبث أن اجتاحت أوكرانيا لتغيير النظام. ووجّه ذلك رسالة بأن روسيا يمكن أن تغزو بعض دول شرق أوروبا الشرقية التي كانت ضمن المنظومة السوفييتية السابقة.
يتركز الجهد الأميركي الآن على نشر قوات واستحداث قواعد في أوروبا الشرقية، ولكنه يجرى حتى اللحظة في إطار الـ"ناتو"
وهناك حالة قلق ومخاوف متنامية في أوساط الحلفاء في أوروبا الوسطى والشرقية، تتلخص في أنه على الرغم من عدم وجود احتمال أن تتحرك القوات الروسية في أقصى الغرب، فإن الحلفاء الشرقيين يريدون ضماناً بأنه في حالة حدوث ذلك، فإن الولايات المتحدة جاهزة كي تساعدهم، ولذلك لا يتوقف تدفق القوات الأميركية إلى دول البلطيق على نحو خاص.
الرسالة الثانية موجهة إلى روسيا، وعكستها الموازنة غير المسبوقة لوزارة الدفاع الأميركية، التي وضعت ضمن أولوياتها تطوير الوجود العسكري الأميركي في أوروبا. ويشكل ذلك أحد تحديات موازنة العام الحالي التي بلغت 820 مليار دولار، بزيادة تبلغ نسبتها 40 في المائة عن موازنات الأعوام السابقة.
وحضرت روسيا بقوة في حديث كل من وزير الدفاع لويد أوستن ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، حين عرضا الموازنة أمام الكونغرس في 23 مارس/آذار الماضي، ووضعا المصاريف الإضافية التي ستشمل القواعد في أوروبا تحت بند "استراتيجية الردع الاستراتيجي"، التي تركز على "التهديدات الروسية المتنامية".
تحاول إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تمييز نفسها عن استخفاف إدارة سلفه دونالد ترامب بحلف شمال الأطلسي. وتعمل على إظهار أن الولايات المتحدة قريبة من الحلفاء، وتؤمن بالأمن الجماعي، ولا تتبع نهجاً أو طرق عمل كالتي اتبعها ترامب. وهذا يعني أن الحضور العسكري الأميركي في أوروبا لن يكون مؤقتاً ينتهي مع توقف الحرب في أوكرانيا، بل سيتحول تدريجياً إلى ثابت بهدف تطويق روسيا ومنعها من أن تكون مصدر تهديد، أو أن تنافس الولايات المتحدة أو أوروبا.
ومن ناحية أخرى، يستبعد الخبراء حتى الآن احتمال مشاركة القوات الأميركية المنتشرة بالقرب من أوكرانيا في النزاع على نحو مباشر، وسيقتصر دورها على تدريب القوات الأوكرانية، وقامت خلال عام من الحرب بتدريب أكثر من 15 ألف جندي أوكراني. ويرى الخبراء أن هذا الدور سوف يتطور أكثر تبعاً للاتجاه الذي تأخذه المعارك، ولمدى تزويد أوكرانيا بأسلحة حديثة من مدرعات ومدفعية ومضادات للطيران.
ويشي النزاع في أوكرانيا بتطورات غير محسوبة، مثل إسقاط الطائرة المسيّرة الأميركية فوق البحر الأسود، منتصف مارس، من قبل مقاتلة روسية، وهو الحادث الأول من نوعه منذ انتهاء الحرب الباردة بين واشنطن وموسكو بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
لن يطول الوقت حتى يحقق الوجود العسكري الأميركي في أوروبا هدفه المباشر، وهو تطويق روسيا وتكبيلها، وسينتهي إلى إنجاز هدف غير مباشر، وهو إنهاء الحلم الأوروبي في بناء الأمن الذاتي.