نعى السوريون أخيراً موفق بكداش، وريث والده محمد حمدي الذي أسس محل البوظة الشهير في سوق الحميدية بالعاصمة السورية دمشق عام 1895. وخرج النعي عن شكله الاعتيادي، وشابه وفاة رجل دولة أو زعيم وطني، فتراوحت مرثيات المواطنين السوريين بين ماضيهم المزين بالحضارة المزدهرة والتي تعود إلى قرون طويلة، وواقعهم المأساوي الحالي وسط أزمة الحرب.
يروي المؤرخ الدمشقي سامي مروان مبيّض أنه في إبريل/ نيسان 1956، زار دمشق ملك الأردن الحسين بن طلال، وجال على أسواقها القديمة مع رئيس الجمهورية حينها شكري القوتلي. وفي طريق عبور سوق الحميدية إلى قبر صلاح الدين الأيوبي خلف الجامع الأموي، مرّ الوفد أمام محل بوظة بكداش، فقال الحشد المرافق للملك: "لا تكتمل زيارة دمشق إلا بوقفة عند بوظة بكداش"، فعرّج الملك على المحل، واستقبله صاحب المحل الذي توفي قبل أيام موفق بكداش، ابن المؤسس حمدي. وسأل الملك: "هل هذا المحل قديم جداً؟". فأجابه أمين العاصمة مختار دياب بأنه يعود إلى عام 1895، فعلّق الملك مبتسماً: "يعني أقدم من الجمهورية، ومن المملكة وسايكس بيكو (اسم الاتفاق الذي حدد مناطق النفوذ بين فرنسا وبريطانيا في غرب آسيا بعد انهيار الدولة العثمانية في تركيا)".
ويغمز مبيّض إلى تبدل وجوه دمشق ورجالها وأفراد طبقتها البرجوازية بالقول في رثائه الخاص لموفق بكداش: "كان هؤلاء التجار في أحد الأيام واجهة البلد، وجزءا مهما من حياتها الاقتصادية والاجتماعية".
مغامرات المؤسس
فعلياً، يتخذ السوريون من بوظة بكداش معياراً للجودة والطعم الفريد، بمثلهم الشائع "حرجي على بكداش" (بمعنى ألا شيء يوازي بوظة بكداش). وتورد الرواية الأهم والتي يتفق عليها كُثر، أن البداية كانت على يد الشاب الدمشقي محمد حمدي بكداش الذي خاض عام 1895 بعدما عمل في بيع عصير الليمون البارد، مغامرة حقيقية لتجربة صنع مادة غذائية لفصل الصيف تختلف عن عصائر التوت الشامي والليمون والتمر الهندي والسوس التي تنتشر في الأسواق، وقرر بحسب المراجع استخدام نبات "المسحلبة" البرّي الذي ينمو في الجبال المرتفعة شمال سورية في منتج جديد، لكنه واجه معضلة الحفاظ على برودة المنتج اللزج في زمن لم تتوفر فيه كهرباء وثلاجات، وتمثل الحل حينها في خوض محمد حمدي مغامرات الذهاب إلى جبل الشيخ غربي دمشق بمحافظة القنيطرة. وتخبر الروايات أن محمد حمدي كان يسرّج خيوله مع العربات، ويتوجه برفقة العمال إلى أعالي جبل الشيخ حيث استأجر مغاور كبيرة رممها وطلب من الفلاحين والعمال أن يجهزوها عبر وضع الثلج فيها وإغلاقها بطين من أجل إنزال البوظة الباردة التي صنعها فيها، مع حرصه على أن يكون اتجاه المغاور التي استأجرها شمالاً كي لا تصلها أشعة الشمس. وفي مطلع الصيف، كان الفلاحون يجلبون الثلج على حمير، وينزلونه ويضعونه داخل المغاور المستأجرة للحفاظ على درجة برودة البوظة.
ولاحقاً، اشترى محمد حمدي براميل بارود خشبية من الجيش، وأعاد تأهيلها وأضاف النحاس إليها ليضع فيها كميات الثلج. واستمر حال المغامرات والعزل الحراري بالبراميل حتى دخلت الكهرباء إلى دمشق عام 1910، فابتكر مؤسس البوظة الشامية آلات لتجميد البوظة. وكان موفق قال خلال مقابلة صحافية: "كنا أول من صنع آلات التبريد، وأرسلنا الآلة الأولى إلى مصر والثانية إلى لبنان والثالثة إلى إيطاليا. واستخدمنا أنواعاً من الفيول في تشغيلها، ولا تزال شركات إيطالية تحتفظ بأول محرك تبريد أرسل من سورية".
اهتمام عالمي
ومع افتتاح المحل بحلته الجديدة بعد وصله بالكهرباء، طلبت دول عدة من محل بكداش أن يرسل إليها صانعي بوظة لتدريب عمالها على المنتج الجديد. وحصل ذلك بعدما حضر سفراء إلى دمشق، وتذوقوا لذة منتج المحل الفريد والوحيد في سورية، ومنهم من بريطانيا وإيطاليا وروسيا وفرنسا. ويؤكد موفق أن عدداً كبيراً من العمال ذهبوا إلى دول أجنبية لتعليم عمالها على صنع البوظة، وأن عدداً منهم بقوا في هذه الدول واستقروا وتزوجوا فيها، وأن أبناءهم وأحفادهم استمروا في التواصل مع المحل. وقصد العمال الأوائل الذين انطلقوا إلى خارج دمشق بعد تأسيس هذه الصناعة إسطنبول وأنقرة عام 1896، بناءً لطلب من الوالي ناظم باشا الذي تحرك بعدما وصلت شهرة بوظة بكداش إلى السلطان العثماني. وأرسلت خيول وعربات لنقل العمال الذين افتتحوا عام 1897 محلات في إسطنبول وأنقرة. وظل العمال في تركيا، وأطلق عليهم لقب عائلة بكداش.
وحضر افتتاح محل بوظة بكداش في إسطنبول مندوب السلطان العثماني وأكثر من 30 مسؤولاً رفيعاً من السلطة العثمانية. وأصبحت كل حفلات الدولة العثمانية الراقية والأعراس تقدم بوظة بكداش في مراسم الضيافة.
الأحفاد
واليوم، يستمر حفيدا حمدي وولدا موفق المتوفى موفق وهشام في إدارة محل بوظة بكداش في سوق الحميدية بدمشق، مع الاحتفاظ بروحية جدهم في الديكور ولوحات الجدران التي تنقل حكايات دمشق وأهلها، وصور ملتقطة لأشهر القادة والملوك والشخصيات السياسية ومشاهير الفن، ما حوّل المكان بتفاصيله والطريقة التقليدية لصنع البوظة عبر دقّها بعصا خشبية على مرأى من الزبائن وتطعيم البوظة بالفستق الحلبي، أحد معالم التراث الدمشقي. وخلال الحرب السورية التي استهدفت منشآت المواطنين وأعمالهم وذكرياتهم، نال محل بوظة بكداش حصته من مضايقات نظام الأسد، بعدما اتهم عام 2017 بارتكاب مخالفات صحية، وأغلق لأيام. لكن غالبية السوريين اليوم لا يزالون يرون أن تناول صحن البوظة الذي يزيد ثمنه عن ثلاثة آلاف ليرة (90 سنتاً)، ترفاً ضرورياً رغم مواجهتهم واقع الركض خلف رغيف الخبز. وفيما هدمت ندرة الكهرباء وقلة السياح بعض ركائز هذه الصناعة العريقة للبوظة، افتتح أحفاد بكداش فروعاً في دول مجاورة، أكبرها وأكثرها شهرة في شارع المدينة المنورة بالعاصمة الأردنية عمّان.