منذ الساعة السادسة صباحاً من كلّ يوم أربعاء، تتّجه حبيبة إلى السوق في المكنين في ولاية المنستير الساحلية، وترتدي جلباباً أسود فضفاضاً يغطي كلّ جسدها، وتضع وشاحاً شفافاً على رأسها. لا تقصد السوق المخصص للذهب، بل ذلك المخصص لبيع الملابس التقليدية والحليّ المقلّدة التي تلقى إقبالاً كبيراً وتعدّ ملاذاً لغير القادرين على شراء الذهب.
يأتي إلى السوق القديم هذا، الذي شيد قبل عقود، أناس من مناطق مختلفة، غالبيتهم نساء. تتجوّل حبيبة بين محلاته وتعرض بضاعتها على المارة والباحثين عن الذهب بعيداً عن عيون الرقابة. ويُقبل العديد من الناس على شراء الذهب بالطريقة نفسها لانخفاض ثمنه وندرة القطع المعروضة التي عادة ما تكون قديمة.
مهنة متوارثة
وقبل مغادرة بيتها، ترتدي حبيبة أكثر من 20 سلسلة من الذهب والأساور، في وقت تخفي بعض الخواتم والحلي في ملابسها. وجلبابها الأسود الفضفاض ليس إلا وسيلة لإخفاء ما ترتديه من حلي لتبيعها خارج السوق القانوني. ويكفي فقط أن تعرض ما لديها على النساء المارات ليبدأ النقاش حول سعر البيع. وتقول لـ"العربي الجديد"، إنّها ورثت المهنة عن والدتها منذ أكثر من عشرين سنة، وهي تبيع غالبية بضاعتها للنساء كما تبتاعها من بعض اللواتي يبعن مصاغهن لحاجتهن للمال. وتشير إلى أنّ "عشرات النساء يمتهنّ هذا العمل منذ سنوات رغم خطورته. يبعن الحلي التقليدية في ذلك السوق، كما يبتعن الذهب من دون التثبت من مصدره. يكفي فقط التأكد من عياره ومن كونه ذهباً أصلياً".
ولا تخفي حبيبة مخاطر عملها، كإيقافها من الأجهزة الأمنية لأنّها تبيع الذهب في السوق السوداء، أو التعرّض للسرقة من أشخاص قد ينتبهون إلى ما ترتديه.
ترصّد
أمام محلّ صغير لبيع الملابس التقليدية التي يعود عمر غالبيتها إلى أكثر من مائة عام، تجلس فاطمة (في العقد الرابع من العمر)، خلف طاولة صغيرة تعرض عليها بعض الملابس والإكسسوارات، وتلبس بعض القطع المصنوعة من الذهب التي تبيعها حتى لا تلفت الأنظار إليها. تترصّد النساء الباحثات عن الذهب، مرددة بصوت خافت على مسامع كلّ من تقترب من بضاعتها: "أتريدين شراء ذهب كاسي (مستعمل)". تنتزع سلسلة أو خاتماً أو سواراً وتعطيه لإحدى النساء لتجرب مقاسه، ثم تتفقان على سعر البيع، وقد يستغرق التفاوض بعض الوقت. تقول فاطمة إنّها تشتري الذهب أيضاً من النساء في السوق أو ممن يتوجهن إلى بيتها لبيعه، وهذا رائج في غالبية المناطق في تونس منذ عقود.
أصلي ومغشوش
على امتداد الشارع الرئيسي للسوق وبين الأزقة الضيقة قرب بيوت معظم أولئك الباعة من النساء، لا ترى سوى لمعان اللون الأصفر للحلي المقلّدة المعروضة على بعض الطاولات، وللأخرى المصنوعة من الذهب الأصلي التي تزيّن رقاب بعض النساء ومعاصمهنّ. الباعة نساء، على غرار غالبية المارة اللواتي يبحثن عن بعض القطع الذهبية الثمينة والأخرى النادرة.
عربية، هي إحدى اللواتي يبعن الذهب في ذلك السوق. لكنّها لا تخفي ما تبيعه تحت جلباب فضفاض، بل اعتادت ارتداء لباس تقليدي تونسي وحلي من الذهب الأصلي، لتضع غطاء على رأسها يتدلى على كتفيها، تضمّه بكلتا يديها لإخفاء ما في جيبها وصدرها من حلي عن أعين الرقابة. تقول إن "هذه الطريقة لبيع الذهب منتشرة في السوق منذ عقود، ولا سيما الذهب التقليدي"، مضيفة أنّ "غالبيتنا يبعن ذهباً أصلياً غير مغشوش. لكن هذا لا يعني أنّ كل الذهب الذي يروّج له هو أصلي".
في أروقة المدينة العتيقة قرب ساحة الحكومة في القصبة، يقع أكبر سوق لبيع الذهب في العاصمة، والمعروف بسوق البِركة. لدى المرور بين الأزقة الضيقة في مدخل سوق المدينة، يقف أصحاب محلات بيع الذهب أمام الواجهات مرددين: "هل تريد بيع أو شراء الذهب؟". يعمل هؤلاء على جذب المارة وخصوصاً النساء لشراء أو بيع الذهب. ويترصدون كلّ امرأة تريد أن تبيع الذهب.
مطالب بتعديل القانون
يرجع تأسيس سوق البركة إلى العهد العثماني عام 1612. كان بالأساس سوقاً لبيع العبيد. لكن بعد إلغاء أحمد باشا باي (عاشر البايات الحسينيين في تونس)، الرق عام 1846، تحوّل السوق إلى مكان مخصص لبيع المصاغ، وبات أكبر سوق لبيع الذهب في تونس.
عند الدخول إلى أحد محال ذلك السوق، يكفي أن تعرض على الصائغ ما لديك من ذهب للتثبت من عياره ووزنه، قبل الاتفاق على سعر البيع. مصدر الذهب ليس مهماً. الأساس هو شراء قطعة الذهب بأقل سعر. إلا أن تدهور القدرة الشرائية للمواطنين وارتفاع سعر الذهب على المستوى العالمي كان سبباً في كساد سوق الذهب في تونس. وبات معظم الوافدين إلى المكان هم ممن يريدون بيع ما لديهم من ذهب، علماً أنّ القانون التونسي المتعلّق بتنظيم قطاع الذهب يمنع إعادة تصنيع الذهب المستعمل، أو ما يطلق عليه محلياً بالذهب "التكسير". وبحسب القانون، يتولى المخبر المركزي للتحاليل والتجارب التابع للبنك المركزي عملية تذويب الذهب المستعمل ودمغه من جديد.
وطالب المهنيون ومصنعو الحلي منذ سنوات بتعديل القانون لتمكينهم من آليات قانونية للاستفادة من الذهب المستعمل الذي يرد على التجار.
وعن ظاهرة بيع الذهب المستعمل في العديد من الأسواق في تونس، يقول تاجر الذهب في العاصمة منذ نحو خمسين عاماً، رشيد بن يوسف، لـ"العربي الجديد"، إنّ "السمسرة انتشرت بشكل كبير في قطاع الذهب، وفي غالبية أسواقه في تونس". يضيف أنّ "البعض يلجأ إلى بيع ما يملكه من ذهب بسبب الظروف الاجتماعية، فيما بات البعض الآخر يبيع الذهب للتجارة". من جهته، يؤكد عضو المكتب التنفيذي بالاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ناصر الدريدي أنّ أكثر من 70 في المائة من الذهب الذي يباع في غالبية الأسواق مغشوش.