تزامن نشر صورة الطبيب المصري ــ الأسترالي دانيال نور في دار أوبرا سيدني بعد اختياره شخصية عام 2021 من الشباب في أستراليا، مع انتشار شهادة الطبيب المصري وليد النهال الذي يعمل في لندن. وشهادة النهال التي حكى فيها عن طابور الجوازات في مطار هيثرو البريطاني الذي يتخلله عشرات الأطباء المصريين المسافرين للعمل في خارج وطنهم، فتحت جراحاً ترتبط بأوضاع الأطباء وحقوقهم المهدرة في مصر، خصوصاً بالتزامن مع انتشار فيروس كورونا الجديد حول العالم. وحتى تاريخ كتابة هذه السطور، سجّلت النقابة العامة لأطباء مصر 677 وفاة بين أطباء على خلفية إصابتهم بكوفيد-19 في خلال ممارستهم عملهم. وفي شهادته التي نشرها على صفحته على موقع "فيسبوك"، أشار النهال إلى أنّه فوجئ بأنّ الأغلبية العظمى على الطائرة المتّجهة إلى لندن من أطباء الدفعات الحديثة، بعضهم يسافر للمرّة الأولى وبعضهم يعمل هناك منذ عام أو أكثر. وتابع الطبيب أنّه "بعد خمس ساعات بسبب الزحام الشديد وصلت لضابط الجوازات، وجدته يضحك ويسألني: أنت أيضاً طبيب؟ طائرة مصر كلها أطباء.. من يعالج المرضى في بلدكم؟".
شهادة الطبيب المصري المقيم في لندن تداولها أطباء ونقابيون أعربوا عن حزنهم من نزيف الأطباء، وجدّدوا مطالبتهم بتحسين أوضاعهم المعيشية والمالية وضمان حقوقهم القانونية التي تحفظ كرامتهم وتبقيهم في وطنهم لخدمته. وفي هذا الإطار، طالبت الطبيبة والنقابية السابقة منى مينا، التي أكّدت مضمون ما نشره النهال، بأجر عادل للأطباء بهدف دفع المجتمع إلى احترام قيم العلم والعمل. بالنسبة إليها، فإنّ الأجر العادل والمرضي يضمن للطبيب حياة كريمة، مشدّدة على ضرورة ربط التميّز وسط الأطباء بالترقّي العلمي، بمعنى أنّ كلّ شهادة علمية تؤدّي إلى زيادة الأجر وكلّ ترقٍّ وظيفي يشترط عدداً من سنوات الخبرة المرتبطة بالحصول على عدد معيّن من ساعات التعليم الطبي المستمرّ.
وقبل نحو عام، رصد المركز المصري للدراسات الاقتصادية هجرة واسعة بين الأطباء منذ بدء انتشار فيروس كورونا الجديد، وأكّد حينها بالأرقام أنّ مصر تواجه موجة ثانية شديدة وحادة والعدوى فيها أوسع انتشاراً من الموجة الأولى، نتيجة غياب الإجراءات الاحترازية الكافية وهجرة الأطباء إلى الخارج والتي تزايدت عقب الموجة الأولى، وقد قُدّر عددهم بنحو سبعة آلاف طبيب، إلى جانب وفاة عدد منهم نتيجة الإصابة بكوفيد-19.
ويُقدَّر عدد الأطباء المصريين المهاجرين نهائياً إلى الولايات المتحدة الأميركية وكندا وأستراليا بما بين 15 ألف طبيب و20 ألفاً، بحسب تصريحات الأمين العام المساعد لنقابة الأطباء سابقاً رشوان شعبان، الذي أشار إلى أنّ أقلّ أجر يحصل عليه الطبيب في الساعة هناك هو 40 دولاراً أميركياً، علماً أنّه يصل إلى 80 دولاراً في أيام الأعياد والعطل. وبينما يُقدَّر راتب الطبيب المصري في بداية تعيينه بنحو 2500 جنيه مصري (نحو 155 دولاراً أميركياً)، يرتفع عند الحصول على درجة الماجستير إلى أربعة آلاف جنيه (نحو 250 دولاراً)، ليصير بعد حصوله على شهادة الدكتوراه نحو خمسة آلاف جنيه (نحو 315 دولاراً).
وعلى الرغم من اعتراف المسؤولين في مصر بمعاناة هجرة الأطباء ونقص عددهم في مصر، فإنّ الحكومة المصرية لا تبادر إلى أيّ حلول لمعالجة الوضع. وفي تصريحات إعلامية، كانت وزيرة الصحة المصرية السابقة هالة زايد قد أكّدت أنّ مصر تعاني من نقص كبير في عدد الأطباء على الرغم من أنّ عدد خرّيجي كليات الطب فيها يبلغ تسعة آلاف طبيب سنوياً. وأشارت زايد، المتورّطة في قضية رشوة مع عدد من مسؤولي وزارة الصحة المصرية، إلى أنّ مصر تعاني من قلّة عدد الأطباء بالنسبة إلى عدد السكان، ومن زيادة عدد الأطباء المصريين الذين يسافرون للعمل في الخارج. وأوضحت زايد أنّ 65 في المائة من الأطباء المصريين يعملون خارج البلاد، وأنّ مشكلة الأطباء في مصر أكبر من كونها مادية، إذ تتعلق بنظام العمل وفرص الترقّي والتعليم وبيئة المجتمع وعناصر أخرى، من قبيل احترام المجتمع للأطباء وتدريبهم على التكنولوجيا الحديثة.
وقد زاد عدد استقالات الأطباء في المستشفيات الحكومية بشكل غير طبيعي في السنوات الأخيرة. ووفقاً لتصريحات أمين صندوق النقابة العامة لأطباء مصر سابقاً، فإنّ عدد المستقيلين من المستشفيات الحكومية في عام 2016 يُقدَّر بـ1044 طبيباً، وقد ارتفع في عام 2017 ليصل إلى 2049 طبيباً، وإلى 2397 طبيباً في عام 2018.
وبحسب الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهاز حكومي)، فإنّه وحتى عام 2018 كان 75 ألفاً و700 طبيب و143 ألفاً و200 ممرّض يعملون في 691 مستشفى حكومي في مصر، فيما يعمل 25 ألفاً و130 طبيباً و22 ألفاً و800 ممرّض في ألف و157 مستشفى خاص. ومع ذلك، تعاني مصر من نقص شديد في عدد الأطباء لديها، ومن هجرة الأطباء والكوادر الطبية منذ سنوات.
ويُقدَّر عدد الأطباء في المستشفيات الحكومية والجامعية والخاصة في مصر بنحو 82 ألف طبيب من كلّ التخصصات، من أصل 213 ألف طبيب مسجّلين، أي بنسبة 38 في المائة من القوى الأساسية المرخّص لها بمزوالة المهنة، بحسب ما تفيد دراسة أعدّتها أمانات المستشفيات الجامعية والمكتب الفني لوزارة الصحة المصرية ومجموعة من الخبراء والمختصين حول أوضاع مهنة الطبّ البشري واحتياجات سوق العمل من الأطباء في مصر.
وتوضح الدراسة الحكومية نفسها أنّ الأطباء المصريين يفضّلون العمل خارج مصر أو الاستقالة من العمل الحكومي للتفرّغ للعمل في مستشفيات خاصة أو في عياداتهم الخاصة. كذلك، تبيّن الدراسة أنّ 62 في المائة من الأطباء إمّا يعملون خارج مصر أو استقالوا من العمل الحكومي أو حصلوا على إجازة. تضيف أنّ طبيباً واحداً يُخصّص لـ1162 فرداً في حين أنّ المعدّل العالمي هو طبيب واحد لكلّ 434 فرداً، أو 8.6 أطباء لكلّ 10 آلاف فرد، في حين أنّ المعدّل العالمي هو 23 طبيباً لكل 10 آلاف فرد.
وفي سياق متصل، يُقدَّر عدد الأطباء في وزارة الصحة والسكان وحدها بنحو 57 ألف طبيب موزّعين على كلّ القطاعات الحكومية في الوزارة، ما بين طبيب تكليف أو ريف أو تخصّص، فيما العدد الأمثل لقطاعات وزارة الصحة هو 110 آلاف، أي أنّ ثمّة عجزاً قدره 53 ألف طبيب في الحكومة.