كان عز الدين أبو حمادة (14 عاماً في الوقت الحالي) في الرابعة من عمره حين نزحت أسرته من حي الشجاعية من جراء المجزرة التي ارتكبتها إسرائيل بحق سكان الحي أثناء عدوان عام 2014. وعلى الرغم من صغر سنه في ذلك الوقت، إلا أنه لا يزال يتذكر أصوات والدته وجيرانه الذين هربوا على متن شاحنة كبيرة. كانت معظم النساء في مؤخرة الشاحنة يبكين. ولم يكن يعرف أن الهرب من أجل النجاة أمر سيستمر طالما أن إسرائيل تكرر اعتداءاتها.
يعيش عدد كبير من أطفال غزة العدوان الإسرائيلي الرابع، وبالتالي النزوح للمرة الرابعة على الأغلب، الأمر الذي يؤثر سلباً عليهم. كانت الهجمات الإسرائيلية الأخيرة تركز على أهداف وسط منازل المدنيين من دون سابق إنذار، لكن الجيش الإسرائيلي حذر أهالي بعض المباني لإخلائها قبل تدميرها بالكامل. أحد هذه المباني كان على مقربة من منزل أبو حمادة وسط مدينة دير البلح، وهو المنزل الجديد للعائلة الذي أقامت فيه قبل أربع سنوات فقط.
يقول عز الدين لـ "العربي الجديد": "بعد مجزرة حي الشجاعية، دمر منزله واضطر وعائلته إلى النزوح وعاشوا في منزل جدهم في حي الصبرة شرق مدينة غزة. ثم قرر والده الانتقال للعيش في مدينة دير البلح ليعيش في هدوء كونها تعد المنطقة الأكثر هدوءاً والأقل كثافة سكانية. تركت العائلة منزلها ثلاث مرات خلال السنوات الأخيرة بعد تهديدات بقصف منازل جيرانهم، إلى أن دمرت طائرات الجيش الإسرائيلية منزلا لعائلة أبو عبيد خلال التصعيد الأخير".
يضيف: "مع كل قصف إسرائيلي، أسأل أبي إن كان القصف يعني حرباً أو لا. عندما يخبرني أنها حرب، أضع هاتفي إلى جانبي مع الشاحن، وزي نادي ريال مدريد، وهذا ما فعلته خلال السنوات الثلاث الماضية. وكلما قصفت إسرائيل، أحلم أن هناك حرباً على غزة فيما تخرجنا أمي بسرعة من المنزل. أشعر بالخوف والتوتر. تدمر منزل عائلة أبو عبيد وتضرر منزلنا جزئياً ونقيم في منزل أقاربنا بمدينة غزة".
خرجت أسرة أحمد مسعود (13 عاماً) من منزلها بعدما قصفت طائرات الاحتلال هدفاً وسط منطقة الشعف بحي التفاح، ما أدى إلى استشهاد خمسة وإصابة عشرة من سكان الحي. تضرر المنزل من جراء القصف دفع العائلة للانتقال إلى منزل أحد أقاربهم. ويقول أحمد إنها المرة الرابعة التي ينزح فيها برفقة عائلته.
كان أحمد في الثالثة من عمره عندما شهدت منطقة الشعف شرق مدينة غزة دماراً كبيراً خلال عدوان عام 2014. دمّر بيته وبيوت الجيران. ما حدث جعله يعاني من صدمة نفسية. ويشرح والده أنه ظل يعاني من التبول اللاإرادي لبعض الوقت. ويقول أحمد لـ "العربي الجديد": "نهرب ولا نعرف إلى أين. أمامنا الشارع. في المقابل، لدى الإسرائيليين ملاجئ يهربون إليها حين نطلق الصواريخ التي ندافع من خلالها عن أنفسنا. وحتى لو صممنا ملاجئ تحت الأرض سيقصفوننا فيها، لأنهم يملكون صواريخ قوية جداً ومدمرة. نحن ضعفاء بالنسبة إليهم لكننا أصحاب حق، وبالتالي نحن أقوى منهم".
ينزح الغزيون الذين يسكنون في المناطق الحدودية إلى منازل أقاربهم البعيدة عن الحدود، إذ إنّ منازلهم معرضة أكثر للقصف كونها تحت الرقابة الإسرائيلية الدائمة. ويحتمل أن تقدم فصائل المقاومة إليها، ما يحولها إلى أهداف إسرائيلية محتملة.
هذا ما فعلته سمية موسى وأطفالها. زوجها موسى (39 عاماً) لاجئ في إحدى الدول الأوروبية، وينتظر الحصول على الإقامة الدائمة للم شمل عائلته (زوجته وأطفاله الأربعة). في الوقت الحالي، تقيم مع أبنائها في منزل عائلة زوجها في منطقة المنطار شرق مدينة غزة، وتقول إنها تنزح مع كل عدوان إسرائيلي أي ست مرات منذ عام 2008. أما ابناها يزن (13 عاماً) ومعاذ (14 عاماً)، فقد خبرا النزوح مراراً أيضاً. لا تخفي الأم الآثار النفسية التي لحقت بطفليها نتيجة تكرار العدوان والنزوح الذي يسبب لهما قلقاً كبيراً يستمر لأسابيع طويلة بعد كل عدوان. وعندما علموا بإعلان الهدنة، فرحوا وصرخوا وصفروا من داخل المنزل في حي تل الهوا. وينتظرون أن يتمكنوا من السفر ليعيشوا بأمان بعيداً عن الحروب.
ويسأل نجلها معاذ خلال حديثه لـ "العربي الجديد": "متى نعيش بأمان؟ نسكن في منطقة خطيرة جداً. أصوات طائرات الاستطلاع مزعجة في الليل. أريد أن أعيش في بلد أنام فيه من دون صوت وأصحو وأنا لا أشعر بأن هناك حرباً".
لم يشف أطفال قطاع غزة من الآثار النفسية الناتجة عن العدوان الإسرائيلي القاسي عام 2021، والذي استمر على مدى 11 يوماً، والعدوان الذي تلاه واستمر ثلاثة أيام أيام في أغسطس/ آب 2022، بالإضافة إلى العدوان الأخير الذي بدأ في التاسع من الشهر الجاري. فتراكم الصدمات يولد في داخلهم عدائية تجاه الخصم كما تقول المعالجة النفسية المتخصصة بسلوكيات الأطفال سمر عطية.
عالجت عطية عشرات الأطفال من الصدمات النفسية خلال السنوات الثلاث الماضية، مشيرة إلى أن العلاج مؤقت. وتُحاول تكثيف الجهود بالتعاون مع العائلات، إذ إن الأطفال يعيشون في بيئات لا تؤمن علاجاً نفسياً ملائماً، بالإضافة إلى أماكن ترفيهية. وتقول لـ "العربي الجديد": "بات أطفال غزة يعرفون عدوهم وكيف يفكر وأسلحته ومدفعياته وطائراته الحربية. لا مجال لأن يتأسس طفل على تربية سليمة بعيدة عن الحرب في قطاع غزة، لكن هناك محاولات لتعزيز العلاج النفسي السليم".