هطلت الأمطار مجدداً على قطاع غزة الذي يعاني سكانه بسبب العدوان الإسرائيلي المتواصل، لكن الأمطار كانت هذه المرة مصحوبة برياح شديدة تسببت في تخريب العديد من الخيام في مناطق الإيواء، ما يزيد من معاناة المواطنين، خصوصاً النازحين الذين يفتقدون إلى أدنى مقومات الحياة.
وبحسب دائرة الأرصاد الجوية الفلسطينية، فإن المنخفض الجوي مصحوب بكتلة هوائية باردة، كما طرأ انخفاض ملموس على درجات الحرارة بالتزامن مع سقوط الأمطار؛ ويستمر المنخفض حتى الثلاثاء. ومع تواصل القصف الإسرائيلي على مناطق متفرقة في قطاع غزة، تستمر حركة النزوح جنوباً من مدينة غزة وشمالي القطاع، ومع دخول فوج جديد من النازحين من شرق خانيونس، يتزايد الاكتظاظ القائم في مراكز الإيواء، وصولاً إلى الإقامة في الأماكن المتاحة كالمحال التجارية ومقار الجمعيات والمخازن تحسباً لدخول فصل الشتاء وبرودة الطقس التي تدفع الناس إلى البحث عن أماكن مغلقة.
فوجئت الفلسطينية نائلة المصري بغزارة الأمطار التي هطلت على المنطقة التي نزحت إليها في مدينة خانيونس، رغم أنها تعيش داخل أحد المحال الفارغة التي فتحها صاحبها لإيواء العائلات النازحة، وبعد ساعات من الأمطار الغزيرة، تدفقت المياه إلى داخل المحل، وحاولت الأسرة إخراج المياه منه، لكن من دون جدوى، فاضطرت مع أربع عائلات أخرى تقيم في المكان للتوجه إلى ممر خلفي في أحد المنازل المجاورة.
مع استمرار هطول الأمطار وتدفق المياه من أعلى الشارع الرئيسي، اضطرت عائلة المصري إلى البحث عن مكان للإيواء في أحد المدارس القريبة التي تحولت إلى مركز إيواء، وباتت مجبرة على البقاء في الممر المجاور لغرف إدارة المدرسة التابعة لوكالة "أونروا".
تقول المصري لـ"العربي الجديد" إن "الأيام الخمسة الأخيرة كانت شديدة البرودة، وفي كل ليلة كانت كل أسرة تتجمع في دائرة حتى نوفر بعض التدفئة للأطفال الذين نضعهم في المنتصف، وفي صباح كل يوم يشكو الأطفال من شدة البرد، حتى إن طفلي آدم (5 سنوات) أصيب بالإسهال من شدة البرد، ولا يزال مريضاً".
تتوقع الأرصاد الجوية الفلسطينية أن ينتهي المنخفض الجوي مساء الثلاثاء
كانت نائلة المصري تقيم في حي الصبرة شرقي مدينة غزة، واستشهد عدد من أفراد عائلتها، من بينهم والدتها وأشقاؤها الأربعة، في مجزرة إسرائيلية، فقررت النزوح إلى خانيونس. تتابع: "لا أستطيع الاستسلام للحزن، فالأهم الآن هو التفكير في كيفية مواجهة البرد، وأحياناً لا أشعر بقدمي من شدته. انتقلنا إلى داخل مدرسة أونروا، وننتظر أن توفر إدارة مركز الإيواء فصلاً لي ولأبنائي الخمسة وزوجي المريض بالربو".
تكمن مشكلة غالبية الأسر في أنهم لم يجلبوا معهم الملابس الكافية أو الفرش خلال النزوح، خصوصاً أفواج النزوح في الفترة الأولى من العدوان الإسرائيلي، فمنهم من خرجوا بعد قصف منزل مجاور، أو قصف الحي الذي يقيمون فيه، ما دفعهم إلى الحركة سريعاً تاركين خلفهم الملابس الشتوية والأغطية، فالطقس وقتها كان مختلفاً عما هو عليه في الوقت الحالي.
ودفعت برودة الطقس غالبية العائلات إلى البحث عن أية ملابس شتوية في مناطق جنوبي القطاع، حتى لو كانت مستعملة، خصوصاً ملابس الأطفال الضرورية لمواجهة البرد، وتشير العديد من العائلات إلى أن الملابس لم تعد متوفرة، وأن عددا قليلا من التجار ما زالوا يملكون بعضها، وأنهم يتجولون في الأسواق الشعبية بحثاً عن أي شيء فلا يجدون.
يقول صهيب رزق الله إنه استطاع الحصول على بعض القطع من "ملابس البالة" بعد نزوحه، لكن عندما عاد للبحث عن أي ملابس لاحقاً لم يجد. ويضيف: "لم نعد نملك أنا وزوجتي ونجلي الأكبر أيمن (16 سنة) ملابس صالحة للتدفئة، وفي الوقت الحالي، لا توجد ملابس جديدة أو حتى مستخدمة، ولا يوجد فرش أو أغطية لمواجهة البرد. إنها المرة الأولى في حياتي التي أشتري فيها ملابس مستخدمة، ونظراً لأنه لا توجد خيارات أخرى، فقد اشتريت لابنتيّ نادين (6 سنوات) وكاميليا (8 سنوات)، وهما تعانيان من السعال منذ أيام بسبب البرودة".
يتابع رزق الله لـ"العربي الجديد": "العالم كله يقف متفرجاً على المأساة التي نعيشها، ويحتسي الملايين مشروبات دافئة بينما نحن لا نجد ماء الشرب النظيف. هذا المشهد القائم في غزة مع انعدام الإمكانيات. نريد أن نشعر بالدفء مثل غيرنا، لكننا نعيش تحت القصف والبرد والمطر بلا طعام ولا أغطية، ولا حتى أمان. تكرر طفلتي أنها خائفة، وقد فقدت الشعور بالأمان، ولا أملك كأب وسيلة لتأمين عائلتي من الخوف والجوع والبرد والعطش. عشرات آلاف الغزيين يبحثون عن أي ملابس، حتى لو مهترئة، لأطفالهم، والكثير من الآباء يمنحون أطفالهم ملابسهم ليتمتعوا بقدر من التدفئة، والجميع يبقون في الخيام أو فصول المدارس".
ومن داخل مدرسة ذكور خانيونس الإعدادية التابعة لوكالة "أونروا"، رصدنا سوء الأوضاع مع اشتداد الرياح والأمطار، إذ تطايرت الخيام التي نُصبت في ساحة المدرسة، واضطرت بعض الأسر إلى دخول الفصول المكتظة بالفعل، أو نصب خيامهم ملاصقة للفصول حتى لا تدمرها الرياح من جديد. يساعد النجار النازح أحمد بركات (45 سنة) بقية النازحين إلى المدرسة في إنشاء الخيام، بعد أن أنشأ خيمة لإيواء أبنائه الأربعة ووالدته وشقيقات زوجته اللواتي نزحن من مخيم الشاطئ غربي مدينة غزة قبل ثلاثة أسابيع. يقول بركات لـ"العربي الجديد": "الخيمة غرقت بالمياه حين هطلت الأمطار أول مرة، فنقلتها إلى مكان آخر، وفي المكان الجديد، حملت الرياح الشديدة المياه إلى الخيمة، ونحاول حالياً جمع ما يمكن من مياه الأمطار في ظل نقص المياه، وقد فتحنا جميع الخزانات الموجودة". يتابع: "حين تهدأ الأمطار، تجلب العائلات الأواني التي وضعوها لتخزين المياه في زجاجات بلاستيكية، ويتواصل هذا الوضع لتأمين الحاجة من المياه. لم نكن راغبين بالنزوح، لكن الاحتلال أجبرنا عليه، ثم يلاحقنا بالجوع والعطش. بنطالي ممزق، ولا أملك جوارب، حتى الصندل الذي لا يحمي أصلاً من البرد مهترئ".
الاكتظاظ داخل مراكز إيواء "أونروا" بلغ ستة أضعاف قدرتها الاستيعابية
وتشير والدة بركات التي تعاني من مرض السكري إلى أن البرد يزيد من شعورها بالصداع، كما لا يتوفر غذاء جيد، وتقول لـ"العربي الجديد": "شعرنا في جنوب القطاع بالجوع والعطش، واليوم شربت من مياه الأمطار. عمري 66 سنة، ولا أملك سوى ما أرتديه من ملابس، ولو استمر البرد على هذا الحال فسيمرض الأطفال. الكثير من الأطفال داخل المدرسة يعانون من الارتجاف فعلياً".
وتقف إدارة وكالة "أونروا" في قطاع غزة عاجزة أمام حاجات النازحين، وهي لا تملك شيئاً حيال المياه الملوثة التي تتدفق في الشوارع من شبكات الصرف الصحي التي تأثرت بالقصف، كما لا تستطيع تشغيل المحطات بسبب نفاد الوقود، وغرقت شوارع في مدينة رفح بمياه الصرف الصحي، كما زادت الأعباء في ظل كونها المنظمة الوحيدة العاملة على مدار الساعة لخدمة النازحين إلى وسط وجنوبي القطاع، والذين وصل عددهم إلى نحو مليون و700 ألف نازح، من بينهم حوالي 900 ألف نازح يقيمون في مرافق "أونروا" في مختلف أنحاء قطاع غزة.
وأكدت "أونروا" أن حجم الاكتظاظ داخل مراكز الايواء التابع لها يقدر بأكثر من ستة أضعاف ما خططت له في ظل أسوأ السيناريوهات، كما أنها لم تكن جاهزة لمواجهة فصل الشتاء وهطول الأمطار في ظل وجود هذه الأعداد من النازحين، إذ تؤوي 97 منشأة في مناطق وسط قطاع غزة ومدينتي خانيونس ورفح حوالي 740 ألف نازح، وتلك الأماكن غير مهيئة لاستقبال النازحين، ولا يمكنها خدمة النازحين لفترات طويلة.
وكان ما يقرب من 160 ألف نازح يقيمون في 57 مدرسة تابعة لوكالة "أونروا" في مناطق الشمال ومدينة غزة، قبل أن يفصل الاحتلال الإسرائيلي القطاع إلى جزئين، شمالي وجنوبي، ما اضطر "أونروا" إلى وقف الخدمات في المناطق الشمالية، وعدم القدرة على تسجيل النازحين في مناطق الشمال ومدينة غزة.
ووثقت الوكالة الأممية أكثر من 85 حادثة أثرت على 67 منشأة تابعة لها منذ بداية العدوان الإسرائيلي، من بينها 17 منشأة تعرضت لإصابات مباشرة، كما قتل 104 من العاملين في الوكالة منذ بداية الحرب.