أمل الأدهم: يما أنا عايشة! أنت لسه عايشة يما؟! (10)

16 أكتوبر 2024
يصعب على الأحياء تصديق أنهم ما زالوا أحياء (محمود عيسى/ الأناضول)
+ الخط -

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.
هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وتنشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".                                      أنا متزوجة منذ عمر السادسةَ عشرةَ، زوجي من بيتِ الغَبَنِ، ونعيش بالقربِ من بيت عائلتي. في السابعِ من أكتوبر، ولأنّ بيتنا قريبٌ من الحدودِ مع الإسرائيليين، فقد قرَّرنا المغادرةَ على الفور، حين شعرنا باقترابِ الاقتحامِ البريِّ. لجأنا إلى إحدى المدارسِ، صرنا نازحين. الخطرُ استمر قريبًا جدًّا منّا، ورغمَ ذلك بقينا نعودُ إلى بيتنا أحيانًا. في إحدى المرّاتِ كان أخي في المنزلِ عندما تعرَّض للقصف، وعندما ذهبتْ أمي لزيارته في المشفى، أصابها القصفُ هي أيضًا في الطريق. اختفت لمدةِ يومٍ كاملٍ، لم نعرف مكانَها ولا مصيرَها ذلك اليوم. كانت في منطقةِ الصفطاوي عندما أصابها الصاروخ، وفقدنا أثرَها، أين اختفت؟ كانت في المشفى ولكن لم يعرفها أحدٌ بسبب التشوُّهات التي أصابت وجهَها. عندما وجدناها في المستشفى في اليوم التالي، لم يكن وجهُها هو وجهَ أمي الذي أعرفُه. كان مغطى بالشاش، وجسمُها مليءٌ بالجروحِ العميقة، مع وجودِ صفائح بلاتين في ساقيْها. تعرَّفتُ عليها فقط من صوتِها! كنتُ في حالةِ صدمةٍ شديدةٍ، أسألُ نفسي: هل هذه فعلًا أُمي؟ وعندما صرخت قائلةً: "أمل، ما تتركينيش!" عرفتُ حينها أنّها هي. قضيتُ شهرًا بجانبِ أمي في المستشفى الإندونيسي، ورأيتُ هناك أشياءَ لا يمكن وصفُها بالكلمات. رأيتُ بعينيَّ ما يحدث، ولم أستطع تصديقَ أنني ما زلتُ حيّة. كلّ يومٍ أسألُ نفسي: هل أنا فعلًا أعيشُ أم أنّني في كابوس؟
دخلنا في منتصفِ شهرِ أكتوبر 2023 ولم أستوعبْ ما كنتُ أراه يوميًا. بشرٌ بلا أطرافٍ، بلا أيدٍ، بلا عيونٍ، جثثٌ مقطوعةُ الرؤوس. الأصواتُ وألوانُ الدمِ والروائحُ الكريهةُ تملأ المكانَ، الأجسادُ البشريةُ لم تعدْ تشبهُ البشر. أطفالٌ كأنّها قطعٌ مكوّمةٌ من اللحم. لم أرَ جسدًا كاملًا. عجزت أن أتذكّرَ أجسادًا مكتملة، لم أستطع. الروائحُ بقيت في أنفي، روائحُ تعفُّنِ الجثثِ والأجسادِ الحيّة. ليس هناك ماءٌ أو طعامٌ أو دواء. سألت نفسي: لماذا إذن نحن هنا في المستشفى إن لم يكون هناك علاجٌ لهؤلاء البشر؟ رأيتُ الناسَ يتحلَّلون أمامي، سواءً كانوا أمواتًا أم أحياء. الدودُ يخرجُ من أجسادِ الأحياء، ولم يوجدْ أمام الأطباءِ أيُّ حلّ. لذلك تطوعتُ لأكون ممرضةً ومعي صديقتي، ارتدينا قفازاتٍ بلاستيكيةً وبدأنا العملَ. رغم قلّةِ الإمكانيات حاولنا فعلَ ما نستطيع. وفي تلك الأثناءِ استمرّ الطيرانُ الإسرائيليُّ يقصفُ المستشفى. ضربوا الألواحَ الشمسيةَ التي تولِّدُ الكهرباء. الدباباتُ أحاطت بالمكان. لم أصدقْ ما كان يحدثُ لو لم أره بعيني. لا كهرباء، لا ماء، لا شيء. هكذا حاصرَ الإسرائيليون المستشفى الإندونيسي. في العنايةِ المركزةِ مرضى على وشكِ الموت.

قضايا وناس
التحديثات الحية

ومن ثمّ قصفَ الإسرائيليون الطابقَ الثالث حيثُ قسمُ الأطفال. ركضتُ إلى هناك، رأيتُ الجثثَ. لقد قصفوا مستشفى مليئًا بالأطفال! غادرتُ الطابقَ المقصوفَ وعدتُ إلى أمي. أخذتُها إلى ممرٍّ بعيدٍ عن القصف، قلتُ لنفسي: سأموتُ بجانبها. نمتُ بجانبها على الأرض، والقصفُ استمر بلا توقفٍ. قرَّرنا ألّا نستسلم. نظفنا المكانَ قدرَ المستطاعِ بعد القصف وقلنا لأنفسنا: "سنموت، ولكن قبل ذلك سنفعل ما بوسعنا". أتذكرُ ذلك اليوم، كان يوم الخميس، أصعبُ يومٍ في حياتي فقد نزلنا إلى القبو، نظفناه وجلسنا فيه نحتمي. فجأة، خلعوا البابَ ودخلوا علينا، كانوا وحوشًا مسلَّحين بكلّ أنواع الأسلحة. ومعنا الكثير من الأطفالِ والعجائزِ والجرحى والمبتورين. رأيتُ امرأةً نزف الدمُ من عينِها بشكلٍ مفاجئ، مثل نافورة. تسمرنا واقفين نشاهدُ في ذهول. قلت لها: "عينُكِ تنزف!" استمرت متجمِّدةٌ في مكانِها، واقفةً كالصخرة. لم تتحرك. لقد أُصيبت بشظيةٍ في عينها عندما خلعوا الباب ولم تصرخْ من الخوف، ربما حتّى لم تشعر بالألم بسبب الخوف. بعد ذلك جمعونا في ساحةِ المُستشفى، دخلوا علينا بكلابِهم وأسلحتِهم. رأيت هناك امرأةٌ مُسِنَّة، في الثمانينَ من عمرِها، جريحةٌ وجالسةٌ على الأرض. قتلوها مُباشرةً بمجردِ دخولِهم. لم تصدرْ أيّ صوتٍ، لم تَئِنَّ حتّى، قتلوها بدمٍ باردٍ. بعد ذلك، أطلقوا رصاصتين على شابٍ فأردَوه قتيلاً. كنا حوالي 180 شخصًا، دخلوا بالدباباتِ والطائراتِ المُسيّرة، ونحن مُجمّدون في مكانِنا، رفعنا أيدينا مُستسلمين.
جلسنا على رُكَبِنا ورفعنا أيدينا، فيما قاموا بتجريدِ الشباب فوق العشرينَ من ملابسِهم، نحنُ الفتيات جعلونا نقف جانبًا. راحوا يصرخونَ علينا، يأمروننا بالوقوف. إحدى المُمرضاتِ، واسمها أسماء، فتَّشوها، قالت لهم: "أنا مجردُ ممرضة!" لكنهم لم يُصدِّقوها. فيما بعد أخذوا بصمةَ العينِ لنا جميعًا، القناصةُ يُحيطونَ بنا مُوجِّهين أسلحتَهم نحونا، أخذنا نرتجفُ من البردِ والخوف، والشباب كانوا يرتجفون أيضًا بعد أن جعلوهم يقفون شبهَ عُراةٍ بملابسِهم الداخليةِ فقط. فحصونا امرأةً تِلوَ الأخرى. كان يومًا أسودَ بكلِّ معنى الكلمة. ودَّعت أمي، قلت لها: "سامحيني يا أمي، قد لا أعود". أمي كانت طريحةَ الفراشِ، لم تستطعْ الحركة، فنقلناها في سريرِها. أتذكر شابًا يُدعى مؤمن مأمون، كانت ساقُه مُثبَّتةً ببلاتين، ضربوهُ بقسوةٍ حتّى خرجَ البلاتين من جسدِه. لا يزال صُراخُه يترددُ في أذني حتى اليوم! لا أفهم كيف عشتُ ولماذا بقيتُ على قيدِ الحياة. كنا جميعًا نصلي، ننتظرُ الموت، ونعرفُ أننا سنموت. كانوا يضربونَ الجرحى على جروحِهم وأطرافِهم المبتورة، ويسخرون منهم قائلين إنهم ليسوا مرضى! أنا أعرف معظم هؤلاء الأشخاص، كلّهم مرضى عاجزونَ ومُقطَّعون. رأيتُهم بأمِّ عيني. أكثرُ ما لا أستطيعُ نسيانَه هو دخولُهم إلى غرفةِ تغسيلِ الموتى، حيث اقتحموا المكانَ بالدبابات، داسوا على الجثثِ بالدبابات، جثثٌ ميتةٌ تعرَّضت للهرسِ مجددًا. رأيتُ هذا بأمِّ عيني!

تعرض المستشفى الإندونيسي للقصف والحصار (محمود عيسى/ الأناضول)
تعرض المستشفى الإندونيسي للقصف والحصار (محمود عيسى/ الأناضول)

بعد أن انسحبوا، بقينا في الممرِّ، البردُ قارسٌ ونحن خائفونَ. جاء الصليبُ الأحمرُ لاحقًا لإجلاء الناسِ من المستشفى. بعد خروجِهم، رأينا العددَ الكبيرَ للموتى، كانوا مشوهين بشكلٍ لا يمكن وصفُه. حتى تلك اللحظة، لم ندركْ تمامًا أنّ ما حدثَ كان مجزرةً. كنّا نحن في قلبها. لا أستطيع نسيانَ كلابهم وأصواتهم المخيفة. كانوا يبحثون في كلِّ مكانٍ، يسألون عن حماس والأسرى، نحن مجردُ جرحى، أغلبُنا من كبارِ السن والأطفالِ والنساء، ومعظمنا مُبتوري الأطراف بسبب القصف. أذكرُ أنّنا لم نجرؤْ حتّى على فتح النوافذ. كانوا يقنصونَنا إذا اقتربنا منها، تقتلُنا طائراتهم المُسيّرة. القصفُ الذي لم يتوقف جعلنا في حالةٍ من الجنون. حاولتُ مرةً أنا وصديقتي الصعودَ لجلب بعض الأغراضِ من الطابق العلوي. بمجرد أن رأونا، أطلقوا النارَ علينا، فاضطررنا للارتماء على الأرضِ وترك كلّ شيءٍ خلفنا. لم نستطعْ التحركَ حتى داخلَ المستشفى، كنّا كفئرانٍ في مصيدة. أذكر أيضًا عندما اختفى الماءُ من الحمامات، لم تكن هناك قطرةُ ماءٍ واحدة. كان الوضعُ صعبًا علينا نحن النساء.
أنا أخافُ رؤيةَ الدم، يُغمى عليّ. لكن فجأةً، شعرتُ بالقوة والمسؤولية لأعالج الجرحى. تخيلي، كنت أخلط ماءَ الأوكسجين بالمحلول لتنظيفِ الجروح. هذه المادةُ خطيرة، وإذا أخطأتُ في قياس الكمية، يمكن أن تكونَ قاتلة. قمت بتجريبِها أولًا على ساق أمي، ثم استخدمتُها لتنظيفِ جروح الآخرين. لا أعرفُ كيف فعلتُ ذلك، ولا أتذكر الكثيرَ من التفاصيل، لكنني كنت أفعلُ ما بوسعي. في العنايةِ المُركّزة، كان هناك شخصانِ يُعانيان من حروقٍ من الدرجةِ الأولى. طلبوا أن يشربوا الماء، وكنت أعرف أنهما يحتضران. بدأت أبكي حين رأيت الدودَ يخرج من أجسادهم! كانوا مجردَ كُتلٍ لحميةٍ تتآكلُ أمامي، ولم يكن باستطاعتي سوى أن أُسقيهم الماء. لم أستطعْ تصديقَ أنني ما زلتُ على قيدِ الحياة بعد هذه التجربة، بقيت في حالةٍ من الصدمة. ذهبتُ إلى أمي، حضنتها وأنا أصرخ: "أنا عايشة!" وأمي تُردِّد: "أنتِ عايشة!" نظرتُ حولي، كانت الجُثث مُتناثرةً. أنا وأمي ننظر في عيونِ بعضِنا غيرَ مُصدقين. 

لقد حَطَّموا كُلَّ أجهزةِ المُستشفى ومُعداته، دَاسوا على الأدوية بالدباباتِ حتى لا نتمكَّن من استخدامها. اعتقلوا المُمرضين والجرحى، حتّى المقطّعينَ منهم. لا أعرف ما الذي سأحتفظُ به في ذاكرتي من كُلِّ هذا! خرجنا في السادسةِ صباحًا يومَ الجمعة، يوم الهدنةِ متوجهين إلى الجنوبِ. وعند خروجنا من بابِ المُستشفى، رأيتُ الكلابَ والقططَ تأكل الجُثث. أحدُ الأشخاص جاء ليتعرَّفَ على جُثةِ شخصٍ يقربه، ليجد أنّ الكلاب كانت قد أكلَت وجهَه. الجُثثُ التي داستها الدبابات بدتْ مُشوهةً لدرجةِ استحالةِ التعرُّف عليها. كان يومًا غريبًا، الناس تمشي في حالةِ ذُهولٍ، ينظرون إلينا غيرَ مُصدقين أنّنا أحياء. بينما آخرون يبحثون بين الأشلاء. أتذكرُ طفلًا قال للإسرائيلييّن عندما اقتحموا المشفى وادعوا أنّهم جاؤوا لحمايتِنا بعد أن قتلوا المرأةَ العجوزَ الجريحة: "يعني حتجيبوا أكل؟" الجوعُ وقتها أوشكَ أن يقتلنا، وبقينا في صدمةٍ مثل ذلك الطفل. عندما وصلنا إلى حاجزِ صلاح الدين، أوقفونا وعذَّبونا أثناءَ التفتيش، عذَّبوا الجرحى أيضًا! كنتُ مشوشةً، رأسي يهتزُّ من الصدمة. بدأوا يصرخون في الميكروفونات، ونحن جميعًا على وشكِ الانهيار، مرضىً ومقطَّعين. طلبوا من الجميع النزولَ، كيف سينزلون؟ لا أحدَ منهم يستطيعُ الحركة! من بين خمسينَ شخصًا كانوا في الباص، كنتُ أنا قادرة على النزول، ومعي امرأةٌ أُخرى، أمّا الباقون فكانوا مُبتوري الأطراف. سألونا: "مافي غيركم؟" تجمدتُ من الرعب، كانوا يرون البشرَ المقطعين أمامهم. أخذوا الفتاةَ التي كانت بجانبي. ثم قال لي أحد الجنود: "أنت ارجعي!" تجمدتُ، شعرتُ أنّني لا أستطيعُ الحركة. قلتُ له: "لا أستطيعُ المشي!" فجَرَّني جَرًّا، بقينا ساعة يفتشوننا وأنا جامدة قُرب أمي. بعد انتهاء ذلك الجحيم، ذهبنا إلى مستشفى ناصر.
اعتقلوا أبي في السابعِ من أكتوبر، كان مجردَ عاملٍ وبقي مُعتقلًا عندهم مدّة شهرين لم نكن نعرفُ عنه شيئًا. عندما خرجَ من السجن، استمرّ جسدُه يرتجف بسبب التعذيبِ الوحشيّ الذي تعرضَ له. أخبرنا كيف كانوا يربطون أيديَهم وأرجُلهم، ويجعلونهم ينامون على حجارةٍ مُدببة. حينَ خرج كان في الخمسين من عمرِه، وجسدُه مُنهكٌ تمامًا! أُلقي بهم عراة ومكبّلين، بلا طعامٍ أو شراب. نجا أبي من الموت في الاعتقال، لتقتلَهُ طائرةٌ مسيرةٌ برصاصةٍ في رقبته في ما بعد. 

المساهمون