أوامر الإخلاء... تهجير سكان المنطقة الشمالية إلى غرب مدينة غزة

13 يوليو 2024
تعرضت غالبية منازل مدينة غزة للتدمير (داود أبو القص/ الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- **النزوح القسري والدمار الشامل:** أجبر القصف الإسرائيلي سكان حي الشجاعية وحي التفاح في غزة على النزوح مجددًا، مما أدى إلى اكتظاظ المناطق المستقبلة ونقص المساعدات الإنسانية.
- **تحديات الحياة اليومية:** فضل العديد من السكان العودة إلى منازلهم المتضررة هربًا من الاكتظاظ في مدارس أونروا، رغم الصعوبات الكبيرة في التنقل والبحث عن مأوى.
- **الأوضاع الإنسانية المتدهورة:** توقفت عمليات أونروا في المناطق الشمالية، مما زاد من معاناة نصف مليون نسمة يعيشون في مبانٍ مدمرة، مع نقص في الأدوية والمساعدات الطبية.

أجبر الاحتلال الإسرائيلي من شدة القصف المتواصل سكان الأحياء القريبة على حي الشجاعية وحي التفاح، خصوصاً من سكان منطقة الدرج ومنطقة التفاح الغربية بمدينة غزة، على النزوح من جديد، ومن بينهم عائلات عادت إلى مناطقها مؤخراً، وعلى الانسحاب الجزئي من بعض تلك المناطق لعدم وجود أماكن إيواء كافية في المناطق التي نزحوا إليها في السابق، فضلاً عن عدم الحصول على مساعدات إنسانية تكفيهم للبقاء على قيد الحياة.
كذلك كانت طائرات الاحتلال الإسرائيلي قد أسقطت، في نهاية مايو/ أيار الماضي، مناشير جديدة تأمر سكان مناطق شمال غربي قطاع غزة بالمغادرة فوراً إلى منطقة غربي مدينة غزة، وذلك بالتزامن مع عمليات الاحتلال المستمرة على المنطقة الشمالية، ما يعني محاولة حشر معظم سكان المنطقة الشمالية المحاصرة في مكان واحد وبقوا فيها من دون عودة إلى مناطقهم لغاية اليوم. ونزح الكثير من سكان المناطق التي تعرضت للتهديد، مثل السلاطين والعطاطرة وحي الكرامة ومنطقة مشروع عامر ومنطقة أرض الغول وأرض عنان وغيرها من المناطق التي حددها الاحتلال على الخريطة الظاهرة في المناشير.

وغالبية المناطق التي وجه الاحتلال إلى سكانها أوامر مغادرة هي أراضٍ زراعية، وأخرى تضم شاليهات سياحية في شمال القطاع وأخرى في شرق مدينة غزة قريبة من الأسواق ومناطق مدمرة كان الغزيون فيها بسبب حشر جميع سكان المناطق في منطقة غرب مدينة غزة وهي لا توجد فيها مساحات، لكن تركز فيها البناء السكني خلال السنوات الأخيرة في ظل الكثافة السكانية العالية في مناطق المخيمات ومراكز المدن، وأنشئت فيها مئات المباني السكنية عبر نظام الأقساط للموظفين، والمشاريع الشبابية. بينما المنطقة التي نزحوا إليها في غرب غزة من أكثر المناطق التي تعرضت للتدمير، وكانت قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي من بين الأكثر اكتظاظاً في القطاع، وفيها عدد من أبرز معالم مدينة غزة الحيوية، وتضم أحياء النصر والشيخ رضوان والرمال ومخيم الشاطئ ومنطقة مجمع الشفاء الطبي، ومعظم تلك الأحياء تعرضت للاجتياح والقصف، وشوارعها مغلقة بسبب انتشار الركام الناتج عن تدمير مربعات سكنية كاملة.
ورغم الدمار الكبير في تلك المناطق، خصوصاً في حي الكرامة شمالي قطاع غزة، فضّل العديد من السكان العودة إلى منازلهم المتضررة هرباً من الاكتظاظ الشديد في مدارس وكالة أونروا، وتفادي التنقلات اليومية من أجل الحصول على ما يلزمهم من الغذاء والمياه والأدوية.
هربت اسرة عماد بعلوشة (40 عاماً) من حي الدرج، شرقي مدينة غزة، نتيجة القصف المتواصل على المنطقة وإجبار الاحتلال لهم عبر الاتصال على هواتفهم وأوامر إخلاء المنطقة، ولم يكن أمامهم سوى المنطقة الغربية لمدينة غزة، لكنه كالجميع كان يردد "وين نروح" إذ إن المنطقة مدمرة ويطلب الاحتلال منهم التوجه إليها فوق أنها مدمرة ومنعدمة في المقومات الحياتية بالكامل.
يقول بعلوشة لـ"العربي الجديد": "هرب عدد من أقاربي مؤخراً عندي بعد العملية على حي الشجاعية، لكننا وإياهم نزحنا الى منطقة وسرنا في الشوارع في المساء ونحن نتعرض لجروح بسبب تدمير الشوارع، ولا يوجد مكان لاستقبالنا فالمدارس أساساً ممتلئة منذ أكثر من شهر بعد عملية جباليا وإخلاء شمال القطاع بعدد من المناطق، وها نحن الآن في الشارع، وضعنا بعض نسائنا رفقة نساء في إحدى المدارس، وخرج الرجال معنا، ولا نعرف إلى أين نذهب. الكل محشور في هذه المنطقة ونسأل متى تنتهي الحرب".

مدارس الإيواء ممتلئة عن أخرها في مدينة غزة (داود أبو القص/الأناضول)
مدارس الإيواء ممتلئة عن آخرها في مدينة غزة (داود أبو القص/الأناضول)

نزح حمدي مطر (35 سنة) عدة مرات إلى مدارس في شمال القطاع، ومدارس في قلب مدينة غزة، إلى درجة أنه لا يتذكر عدد مرات نزوحه من كثرة تنقلاته المفاجئة، وقد نجا من عدة مجازر إسرائيلية، أخطرها كانت على مدرسة أنس بن مالك في منطقة الصفطاوي، ومن اقتحام مجمع الشفاء الطبي في مارس/ آذار الماضي، وقد اعتقل الاحتلال عدداً من أفراد عائلته في جنوب القطاع، ثم أفرج عنهم لاحقاً بعد تعريضهم للتعذيب. يعيش مطر حالياً في منزل العائلة الذي تعرض لأضرار جزئية، والذي يضم أربع أسر بداخله. ويقول لـ"العربي الجديد": "في كل مرات النزوح كان الركام الذي يملأ شوارع الحي يعرضنا لجروح وإصابات، وعندما عدنا جرحت أقدامنا أيضاً، لكننا راضون بالجروح التي أصبنا بها، فهي لا تقارن بالجروح الموجودة في قلوبنا. عدت فوجدت المنزل عبارة عن جدران فقط من دون أبواب أو نوافذ أو أثاث، والآن يطالبوننا بالخروج من جديد من الركام إلى ركام أكبر في غرب مدينة غزة". 
يضيف: "دمر الاحتلال المنطقة، وهجر سكانها منذ الشهر الأول للعدوان عبر القصف العشوائي، كما دمر أجزاء من مستشفى الكرامة التخصصي الذي يبعد عن منزلي مئات الأمتار فقط، وعندما عدنا، لم يكن يوجد أي دليل على الحياة في المنطقة، فقد نسفوا كل شيء، ولم يتبق سوى هياكل المنازل المدمرة والركام. نريد أن نبقى في منازلنا حتى لو كانت متضررة، لكنه جرى تحذيرنا بالإخلاء، وفي المنزل عشرة أطفال، وهم أمانة في أعناقنا، لذا يجب أن ننزح حتى نحميهم". 
يبحث مطر عن مكان يؤويه عند النزوح إلى غرب مدينة غزة، وهو يعرف أن جميع المدارس في حي النصر ممتلئة بالنازحين، وقرر السير إلى مخيم الشاطئ، حيث توجد عشرات الخيام في وسط ساحة مدرسة تابعة لوكالة أونروا، ربما يجد فيها مكاناً.
وقال المفوض العام لوكالة أونروا فيليب لازاريني إن عمليات الوكالة لا تزال متوقفة في المنطقة الشمالية التي تشكل محافظة شمال القطاع ومدينة غزة، والتي يصنفها الاحتلال "منطقة قتال"، وتؤكد الوكالة في تقاريرها المتكررة أنه لا يوجد مكان آمن يذهب إليه الناس في قطاع غزة، سواء في الشمال أو الجنوب، وأنه على مقربة من الشهر الثامن من العدوان الإسرائيلي، قتل 200 موظف في "أونروا" أثناء ممارسة أعمالهم الإغاثية والخدمية في مراكز الإيواء، وإن 190 من المقار والمراكز دمرت جزئياً أو كلياً، بينما يعيش نحو نصف مليون نسمة في المباني المدمرة أو المتضررة كثيراً في قطاع غزة.

لا تملك كثير من العائلات مكانا تغادر إليه (داود أبو القص/الأناضول)
لا تملك كثير من العائلات مكاناً تغادر إليه (داود أبو القص/الأناضول)

من جهته، نزح محمد العطار (37 سنة) من منطقة العطاطرة مع أربعة من أبنائه إلى مخيم الشاطئ أيضاً، وهم من تبقوا معه بعد نزوح غالبية أفراد أسرته سابقاً إلى مناطق جنوب القطاع. ويشير إلى أن جميع أشقائه نزحوا جنوباً، لكنه رفض النزوح، وقرر البقاء بالقرب من منزل العائلة وأرضهم الزراعية، مؤكداً أن الاحتلال أحرق الأرض الزراعية، ودمر بئر المياه ومعدات ضخ المياه والمحراث.
عندما عاد العطار إلى أرضه الزراعية، وجد كيساً من حبوب البندورة وحبوب خضراوات أخرى، فقام بتجهيز الأرض لزراعتها، ثم بدأ بإزالة الركام وإعادة تأهيل إحدى غرف المنزل حتى تبقى فيها أسرته، لكنه سرعان ما تلقى التهديد بالمغادرة، فنزح مجدداً إلى غرب مدينة غزة، وحين وصل إلى حي النصر، وجد عدداً من النازحين يقيمون في منازل شبه مدمرة، فتابع السير وصولاً إلى قلب مخيم الشاطئ. 
يقول لـ"العربي الجديد": "كل شيء تقريباً في منطقتنا مدمر، سواء كلياً أو جزئياً، ونسبة الدمار الكلي أكبر من الجزئي، وعودتنا كانت لأننا نريد البقاء في أرضنا، وزراعتها. واجهت الجوع خلال الأشهر الماضية، وابني دخل المستشفى أكثر من مرة بسبب سوء التغذية، والبقاء في أرضي ومنزلي أفضل من النزوح. بكيت لحظة الإخلاء أمام أبنائي، وقد كنت لهم الأب الذي لا يهزم، وقد سرت حافي القدمين حتى وصلنا إلى منطقة غرب غزة، ولا يوجد فيها سوى الركام، وتابعت السير إلى مخيم الشاطئ، وها نحن معرضون للموت الذي يحاصرنا من كل مكان، ما بين القصف والجوع والعطش، وما يقلقني أن يدمر الاحتلال الغرفة التي قمت بترتيبها لتؤوي عائلتي، أو موت النباتات التي زرعتها أخيراً، وأتمنى أن أعود إليها سريعاً".
وتستمر حركة النزوح من شمال قطاع غزة، خصوصاً من مخيم جباليا وعدة مناطق في بلدة بيت لاهيا بعد العمليات الإسرائيلية الأخيرة، وذلك بعد أن دمر الاحتلال العديد من منازل العائلات التي قررت الصمود وعدم مغادرة مناطقها، قبل أن يضطرّ عدد منهم إلى النزوح من أجل الحفاظ على حياة أطفالهم، وكانوا مجبرين على متابعة السير إلى غرب مدينة غزة في ظل تقييد الحركة في شوارع من بينها شارع الرشيد، لكن اثناء عودتهم مع انتهاء العملية العسكرية على مخيم جباليا الشهر الماضي، وجد الكثيرون أنهم من دون منزل، لذا عادوا إلى منطقة غرب مدينة غزة.
وصل سائد النونو إلى إحدى مدارس حي النصر القريبة من منطقة مجمع الشفاء الطبي غرب مدينة غزة، وقرر البقاء فيها رغم الدمار الذي حلّ بالمنطقة كلها، وهو من بين عدد كبير من العائلات التي توجد في المنطقة بعد أن امتلأت مدارس حي النصر وحي الشيخ رضوان بالنازحين.

قضايا وناس
التحديثات الحية

كان النونو (50 سنة) يقيم في منزل شقيقه المدمر جزئياً بمنطقة السلاطين منذ تدمير منزله ومنزل والده بالكامل، وهو مصاب منذ نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، ولا يملك أدوية لعلاج إصابته في الرأس وحروق في أسفل صدره، وخضع للعلاج آخر مرة قبل بدء العملية الإسرائيلية على شمال القطاع في مستشفى كمال عدوان، لكنه حالياً يحتاج إلى متابعة طبية مستمرة بعد أن فاقم النزوح آلام رأسه، وسبّب مضاعفات والتهابات بالحروق.
يقول سائد لـ"العربي الجديد": "لا نريد النزوح من موت إلى موت. عدد من أصدقائي استشهدوا خلال رحلة النزوح إلى مدينتي خانيونس ورفح، وعندما عدت إلى منزلي وجدته مدمراً، فبقيت في منزل شقيقي المدمر جزئياً لأنني كنت أحتاج إلى الراحة، فهناك خطر على حياتي بسبب الإصابة، والآن أعيش النزوح للمرة العاشرة تقريباً، وأخاف أن أفقد حياتي، ويصبح أبنائي الستة أيتاماً".

المساهمون