إسكافيو الجزائر... حرفة تتحدى الاندثار في زمن الاستهلاك

17 اغسطس 2021
مهنة الإسكافي تمارَس بمعدات تقليدية (العربي الجديد)
+ الخط -

 

لا شك في أن التجارة الاستهلاكية، خصوصاً تلك التي مصدرها الصين، أضرّت بمهن صغيرة كثيرة في بلدان عدة، إحداها حرفة الإسكافي في الجزائر، لكن المهنة تحاول أن تصمد رغم الصعوبات.

تتحدى حرفة الإسكافي، أي تصليح الأحذية، في الجزائر الاندثار منذ سنوات، حيث يأبى كثير من مزاوليها تركها والانتقال إلى مهن أخرى رغم الصعوبات الكبيرة وتراجع مردودها المادي، في ظل "غزو" الأحذية الصينية السوق في الأعوام الأخيرة. ويعتبر محمد حاجي (56 عاماً) أحد أقدم الإسكافيين في منطقة أحمر العين بمحافظة تيبازة غرب العاصمة الجزائر، إذ يزاول حرفته منذ 40 عاماً. يقول في لقاء أجرته معه "العربي الجديد" داخل محله البسيط: "بدأت في ممارسة حرفة الإسكافي منذ العام 1982، وقد تعلقت بها حين كنت أجالس جدي خلال أوقات الفراغ. كان جدي يدفعني الى تصليح أحذية ممزقة، ثم واصلت مسيرته بعد وفاته، وحافظت على الحرفة وأبقيت المحل مفتوحاً. في تلك الفترة، خضعت لتأهيل مهني في مدينة البليدة سمح بتعاملي مع الأحذية بحرفية أكبر. واستخدمت في بداية نشاطي معدات تقليدية، في حين أسقطت فكرة الإفادة من برامج دعم الحكومة للحرفيين بسبب عدم توافر محل كبير يستوعب المعدات الحديثة التي قد أحصل عليها، واكتفيت باقتناء الآلات صغيرة الحجم الضرورية لممارسة المهنة تماشياً مع متطلبات الزبائن".

ويشير حاجي إلى أن "حرفة الإسكافي بلغت أوجّ ازدهارها في الثمانينات من القرن العشرين، بسبب إقبال الجزائريين عليها في ظل تمسكهم بالحفاظ أطول فترة ممكنة على أحذية ذات نوعية جيدة كانوا لا يترددون في شرائها بأسعار مرتفعة. وشهدت هذه المرحلة أيضاً ازدهار الصناعة المحلية للجلود والأحذية، في حين كان يقتصر استيراد الأحذية تحديداً على ماركات عالمية يمكن ترقيعها في حال تمزقت، بخلاف الأحذية الصينية التي تغزو الأسواق حالياً والتي لا يمكن ترقيعها بسبب نوعيتها الرديئة وسعرها المنخفض، ما يدفع مقتنيها الى رميها مباشرة بعد تمزقها".

الجزائر اضافة (العربي الجديد)
بين الجلود ومستلزمات ومواد مختلفة (العربي الجديد)

يؤيد العم موسى غبريني، الإسكافي في مدينة العفرون التابعة لمحافظة البليدة، زميله في المهنة محمد حاجي، ويقول إن "الإسكافيين استطاعوا تطوير مهنتهم في الثمانينات من القرن العشرين، وتجرأوا حتى على صنع أحذية وحقائب باستخدام جلود محلية أنتجتها مصانع في مدن المدية وتلمسان والبليدة، والتي عرفت حينها طريقها إلى التصدير الخارجي بسبب نوعيتها الجيدة التي أنتجت أحذية وحقائب وإكسسوارات مختلفة، علماً أننا كنا نستطيع أن نصنّع هذه البضائع محلياً لو توافرت حينها إرادة لتطوير الإنتاج الوطني". 

ويقول العم موسى الذي عمل سنوات في مصنع للجلود بمدينة البليدة، ثم فتح محل خاص به للإفادة من خبرته في صنع الأحذية، لـ"العربي الجديد": "جلبت تجهيزات سمحت بتطوير نشاطي، وأبرمت عقوداً لتزويد مؤسسات بأحذية وترقيع ألبسة يرتديها العمال. لكن نشاطي المهني تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة لأسباب عدة أولها ارتفاع أسعار المواد الأولية، خصوصاً الجلود، وندرتها أحياناً في المخازن والمصانع. وترافق ذلك مع نقص كبير في الطلبات على الأحذية المصنّعة يدوياً، مع توجه الناس الى شراء منتجات مستوردة رغم أن نوعية بعضها رديئة. ودفعني ذلك إلى صرف عمال، وتجميد جزء من نشاطي وصولاً إلى الاكتفاء بتصليح الأحذية والحقائب".

لا يُخفى أنّ إسكافيين كثراً أوقفوا نشاطهم، خصوصاً أولئك الذين لا يملكون محلات ويتنقلون بين الأسواق وساحات المساجد والعراء، بسبب تكبدهم مشقات كثيرة يومياً. لكن البعض لا يزال يصارع الوضع ويتحداه، وبينهم حميد قاسمي من مدينة بورقيقة الذي يملك طاولة تحتوي أدوات خفيفة وأحذية وبعض مستلزمات المهنة. يقول قاسمي لـ"العربي الجديد" خلال انهماكه في تصليح أحذية وكرات قدم أمام أنظار أصحابها الذي ينتظرون انتهاءه من العمل الذي يدر عليه دنانير قليلة: "قدمتُ طلباً لدى أجهزة حكومية لمساعدتي في اقتناء محل، ولا أزال أنتظر الحصول على جواب إيجابي، لأنني متمسك بحلم امتلاك محل يجعلني أمارس مهنتي بأريحية، وربما تطويرها لأنني أتقن خياطة الأحذية والكرات بطريقة فريدة، ولا أحتاج إلا إلى دعم وتشجيع وامتلاك وسائل ضرورية، إذ أعاني كثيراً في فصل الشتاء أثناء تساقط الأمطار ما يحتم غيابي لأيام عن العمل. وفي الصيف أتعرض لحرارة الشمس القوية. فكرت مرات بالتوقف عن العمل، لكنني أربي عائلة من جهة، ومن جهة أخرى لدي شبكة جيدة من الزبائن تجعلني أرفض التخلي عن حرفتي بسهولة".

رغم التراجع الطاغي في ميدان عمل الإسكافيين، يرى حرفيون كُثر أن استعادة مصانع لنشاطها، وفتح باب الاستيراد مجدداً، وتغيّر ثقافة الشبان نحو اقتناء أنواع أحذية أكثر جودة بغض النظر عن أسعارها المرتفعة، أعادت الروح لحرفتهم، وجعلت محلاتهم موضع إقبال للشبان لترقيع أو تزيين الأحذية، خصوصاً تلك الرياضية أو المخصصة للزي الرسمي، في حين يفضل أرباب عائلات كثر شراء أحذية صينية لتلبية احتياجات أولادهم من أجل دخول المدارس أو في مناسبتي عيد الفطر أو عيد الأضحى.

ويعتبر هؤلاء الحرفيون أن تجربة اقتناء الأحذية الصينية غير المشجعة بسبب نوعيتها الرديئة وصلاحيتها المحدودة وعدم إمكان تصليحها، أنقذت حرفتهم جزئياً من الاندثار، بعدما جعلت جزائريين كُثراً يبادرون إلى اقتناء ألبسة وأحذية ذات نوعية جيدة من دون مبالاة بأسعارها المرتفعة، ما أعاد إليهم زبائن هجروهم طوال سنوات.

مهارات حرفية عالية (العربي الجديد)
مهارات حرفية عالية (العربي الجديد)

في مدن جزائرية كثيرة، يبقى الإسكافيون أصدقاء الفقراء الذين يقصدونهم طمعاً بتمديد صلاحية أحذيتهم ولو لفترة قصيرة، بهدف استخدامها مجدداً. ويتحدث هؤلاء بسعادة عن زيارة أشخاص كانوا سابقاً تلاميذ يتحدرون من قرى ومزارع نائية ويصلحون أحذيتهم مجاناً بسبب أوضاعهم الاجتماعية المزرية وفقرهم الظاهر، ما يعني أنهم لم ينسوا "أصدقاء الأمس" فيعودون إليهم للسؤال عن أوضاعهم واسترجاع الحنين إلى الماضي.

ويفتقر الإسكافيون إلى نقابة أو جمعية تدافع عن حقوقهم أو تمثلهم لدى الهيئات الرسمية للمساهمة في إزالة عوائق تصادف عملهم. وقد حالف الحظ قلة منهم في الحصول على دعم من الدولة عبر الانضمام إلى برامج جعلتهم يفتحون محلات بتجهيزات حديثة. لكن هذا الأمر محصور في مدن تعرف نشاطاً تجارياً كبيراً، ويدخلها ويخرج منها مواطنون من كل المحافظات، ما يجعل الإسكافيين يضمنون الحصول على مداخيل جيدة، ويحثهم على تنويع أنشطتهم، وعدم حصرها في تصليح الأحذية، وتطويرها إلى صنعها والحفاظ عليها وخياطتها. أما الإسكافيون الذين يتواجدون في مدن صغيرة فيفضلون العمل بطريقة تقليدية، خصوصاً أولئك الذين لا يملكون محلات ويتنقلون من مكان إلى آخر، مع الاضطرار إلى العمل وسط ارتفاع أسعار المواد التي يستخدمونها.

يقول رئيس الجمعية الوطنية للتجار والحرفيين، الحاج الطاهر بلنوار لـ"العربي الجديد": "حاولت الجمعية مرات استقطاب الإسكافيين من أجل تنظيمهم تمهيداً للدفاع عن حقوقهم والحصول على دعم من الدولة، لكن ولاية سطيف فقط احتضنت تنظيماً محلياً لهم، علماً أن الجمعية الوطنية تلعب دوراً مهماً في توفير تأمين صحي للإسكافيين، وحصولهم على المحلات، والعمل لرفع مستوى الحرفة واستعادة أمجادها وتطويرها وفق أساليب عصرية".

المساهمون