أعلن مسؤولون أوروبيون أن الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي توصلوا، أمس الجمعة، بعد ليلة من المفاوضات، إلى اتفاق على خفض انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري بحلول عام 2030، بنسبة "لا تقل عن 55 في المائة" عما كانت عليه عام 1990، علماً أن هدفها كان 40 في المائة. ورحبت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين في تغريدة على "تويتر"، بتبني رؤساء الدول والحكومات "اقتراحاً طموحاً لهدف مناخي جديد".
وكانت بولندا التي تعتمد بشكل كبير على الفحم، قد عطلت الاتفاق لساعات، معربة عن تخوفها من العواقب الاقتصادية الجسيمة لهذا التغيير. وطالبت بضمانات بشأن المساعدات المالية التي ستحصل عليها في مقابل تكييف اقتصادها مع متطلبات تطبيق معايير بيئية جديدة.
وتعقد الأمم المتحدة، اليوم السبت، قمة افتراضية بمناسبة مرور 5 سنوات على اتفاقية باريس للمناخ، وسط تحذير المنظمة الدولية من ارتفاع في درجة حرارة الأرض. وبحسب تقرير أولي أصدرته المنظمة العالمية للأرصاد الجوية التابعة للأمم المتحدة (WMO)، فإن العام الحالي هو الأكثر حرارة منذ بدء قياس درجة حرارة الأرض في عام 1850. ولا يعدّ ارتفاع درجة حرارة الأرض المؤشر الوحيد على التغير المناخي.
في مثل هذه الأيام قبل 25 أو 30 عاماً، كان مواطنو دول الشمال الأوروبي، وخصوصاً الدول الاسكندنافية، يعرفون تساقطاً كثيفاً للثلوج يبدأ في وقت مبكّر من العام، وأحياناً في أكتوبر/ تشرين الأول، ليشهد شهر ديسمبر/ كانون الأول، فترة عيد الميلاد، تجمّداً للبحيرات والأنهار في وقت تغطي طبقة جليدية بعض الشواطئ نتيجة لتدني درجات الحرارة إلى ما دون العشرين تحت الصفر. اليوم، لا تشهد هذه البلدان تساقطاً للثلوج قبل ديسمبر/ كانون الأول، وتتراوح درجة الحرارة ما بين 1 إلى 6 درجات. كما يرتفع منسوب مياه الشواطئ، كما هو الحال في شمال غرب الدنمارك (بحر الشمال)، بالإضافة إلى انحسار الجليد في جزيرة غرينلاند والمحيط المتجمد الشمالي.
قبل خمس سنوات، عُقدت قمة مناخية عالمية وقّع فيها مندوبو 200 دولة في باريس على اتفاقية باريس للمناخ. ورغم أن الاتفاقيّة كانت ملزمة، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب منها عام 2017، ما عُدّ ضربة موجعة لطموحات علماء وساسة الدول التي تستشعر خطورة التغيرات المناخية.
وحملت اتفاقية باريس في أهم مضامينها، توافقاً عالمياً غير مسبوق بمشاركة كبار المتسببين بالغازات الدفيئة، وهي الصين والولايات المتحدة والهند، على خفض درجة حرارة الأرض، أو الإبقاء على الأقل على ارتفاعها بحدود دنيا. ونجحت الاتفاقية في الوصول إلى حلول وسطية، وقد اتفق قادة العالم على أن الهدف هو الحفاظ على متوسط ارتفاع درجة الحرارة بحد أقصى هو درجتين مائويتين. وفي الوقت نفسه، توصّل هؤلاء إلى إتفاق إضافي تلتزم فيه الدول على إبقاء الارتفاع دون 1.5 درجة مائوية بعد نحو 80 عاماً، أي في عام 2100، بحسب ما أعلن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس مؤخراً.
نجاح آخر تمثّل في صياغة ملزمة جمعت للمرة الأولى بين التزامات الدول الثرية والفقيرة، مع منح الدول هامش تحديد مساهمتها وأهدافها في السياق العام للاتفاقية. هاجس علماء وخبراء المناخ والبلدان المدركة لخطورة تغيّر المناخ على مستقبل البشرية، تُرجم في التزام 55 دولة على الأقل باتفاقية باريس للمناخ بدءاً من 4 نوفمبر/ تشرين الثاني 2016.
حكومات عدة حول العالم رأت في الاتفاقية "فرصة ملزمة ومصيرية للتحول الأخضر"، كما أعلنت في ذلك الوقت المفوضة الدنماركية البيئية السابقة، كوني هيدغورد، التي ترأست اجتماع قمة الأمم المتحدة في باريس. وعُقدت آمال على الدول الأكثر تسبباَ في الاحتباس الحراري للحد من انبعاثات الغازات الدفيئة، لما لها من تأثير على مستقبل الأجيال المقبلة.
تفاوت في الالتزام
ويبدو أن الدول الأوروبية، مع انتخاب أورسولا فون ديرلاين رئيسة للمفوضية الأوروبية، أظهرت جدية أكبر لناحية الالتزام بالاتفاقية. وتتجه دول الاتحاد الأوروبي نحو الاقتصاد الأخضر، ما يعني فرض قيود على شركات النفط الكبرى، وخفض استثماراتها في الوقود الأحفوري.
ومع زيادة الوعي الشعبي وتسابق الأحزاب لتقديم نفسها على أنها حريصة على مكافحة تغير المناخ، هناك شكوك حول مواقف بعض الدول التي تؤثّر صناعاتها بنسبة كبيرة في تغير المناخ. وإذا كانت صور الأقمار الصناعية خلال ذروة جائحة كورونا في الصين قد أظهرت انحساراً في نسبة التلوث بعد توقف المصانع وحركة السيارات، إلا أن بكين، بحسب متابعي اتفاقية باريس في الدول الاسكندينافية، ما زالت بعيدة عن تحقيق ما التزم به رئيسها شي جين بينغ لخفض تام لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون بحلول 2060. "فتلك وعود ليس فيها الكثير من الوفاء"، تقول هيدغورد.
وخلال العام الحالي والعام الذي سبقه، حذّر العلماء من انحسار الغطاء الجليدي في القطب الشمالي والبحر المتجمد الشمالي. وتشهد المنطقة اندفاعاً روسياً صينياً للهيمنة على الموارد وتحويلها إلى منطقة صناعية وممر بحري، لما لذلك من تأثيرات سلبية، وقد نكثت دول عدة بوعودها قبل سنوات. وينتقد المتشائمون في ما يتعلق بتنفيذ بنود اتفاقية باريس للمناخ سياسات الدول المسؤولة أكثر من غيرها عن انبعاث الغازات الدفيئة، وتأجيل الالتزامات وجعل تنفيذها على مدى أطول مما حدد سابقاً.
وفي وقت يتفهم علماء وسياسيون في أوروبا من يمين الوسط أن "عملية تغيير مسار ناقلة عملاقة" على سبيل المثال، والتي يمكن أن تعادل التحول الأخضر، تسير ببطء، إلا أن أصوات المنظمات والأحزاب المعنية بالبيئة لم تتوقف عن الضغط على حكوماتها لاتخاذ إجراءات ملموسة من دون انتظار القوى العظمى، أو تلك المسؤولة عن أكبر نسبة من انبعاث الغازات الدفيئة. هذه الضغوط التي تستند إلى اتفاقية باريس، تؤدي إلى تقارب سياسي في أكثر من دولة للتحول الأخضر، ومنع سير السيارات التي تعتمد على الوقود واستبدالها بتلك التي تعمل من خلال البطاريات، كما في الدول الاسكندينافية وألمانيا وإلى حد ما بريطانيا وهولندا.
عملياً، يمكن تلمس متغيرات ما بعد قمة باريس للمناخ. ورغم الانشغال بوباء كورونا، توافق المشرعون في الدنمارك على زيادة الاعتماد على الطاقة البديلة، وبشكل خاص الطاقة الشمسية، بنسبة تتجاوز الـ 50 في المائة خلال السنوات العشر المقبلة. بالإضافة إلى ما سبق، فإنه وحتى عام 2030 سيجري، التزاماً باتفاقية باريس، استبدال 775 ألف سيارة تعمل بالطاقة (ديزل وبنزين) بسيارات تعمل بالطاقة البديلة. وستكون مؤسسات الدولة في المقدمة، بالإضافة إلى وسائل النقل العام. وإلى حين الوصول إلى طاقة نظيفة بنسبة مائة في المائة، ستعمل وسائل المواصلات والسيارات والطائرات على خفض ثاني أكسيد الكربون. وتأمل الأحزاب اليسارية والمعنية بالبيئة في الدنمارك الوصول إلى مليون سيارة هجينة وسيارات تعمل بالبطاريات بعد 10 سنوات من الآن، وهو ما يؤيده خبراء في جامعات دنماركية مختلفة. ويأمل هؤلاء أن تصل بلادهم عام 2050 إلى التخلص التام من الطاقة الأحفورية، وقد اتفقت الأحزاب على أن تتوقف الدنمارك بعد 2050 عن استخراج النفط من بحر الشمال.
الصين تحد عالمي
رغم الحرص الأوروبي على قضية تغيّر المناخ والتلوث نتيجة إنبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وانحسار الطبقة الجليدية في القطب الشمالي، ومخاوف انحسار الغابات المطيرة، وتزايد الحرائق فيها (كما حدث في البرازيل 2010 و2020). إلا أن انبعاثات الصين تظلّ مصدر قلق للدول الحريصة على مناخ عالمي صحي. في وقت يناقش الأوروبيون مشكلة مسؤولية قطاع الطيران التجاري عن نسبة لا تزيد عن 2 في المائة من ثاني أكسيد الكربون، يلاحظ الخبراء الأوروبيون أن الصين، وبدلاً من خفض نسبة إنبعاثاتها بعد توقيع اتفاقية باريس للمناخ، شهدت زيادة بنسبة 5 في المائة خلال عام 2018، أي بعد عام من انسحاب ترامب من الاتفاقية.
ويعزو الأوروبيّون ومنظمة "غرينبيس" الأمر إلى "الاستثمارات الكبيرة في صناعة الفحم والنفط". وتشكّل انبعاثات الصين من الغازات الدفيئة نحو 30 في المائة، متفوقة على أميركا المسؤولة عن 15 في المائة، فيما الاتحاد الأوروبي مسؤول عن أقل من 10 في المائة من تلك الإنبعاثات. ومنذ عام 2014، تفوقت بكين، وفقاً للبنك الدولي، على أوروبا لناحية نصيب الفرد من الإنبعاثات، وبضعف نصيب الفرد السويدي، حيث تعتمد السويد منذ عام 1975 على الطاقة البديلة، وبالأخص الطاقة النووية في صناعة الكهرباء، وتعد الأقل تلوثاً في أوروبا.
وخلال عام 2018، أكّد البروفيسور الهولندي نيكلاس هون، الخبير في معهد "نيو كلايميت"، على أرقام "غرينبيس" التي خلصت إلى تفلت الصين من التزاماتها. ونقلت صحيفة "فايننشال تايمز" عن هون قوله: "في نهاية المطاف، الصين من ستقرر ما إذا كانت الإنبعاثات العالمية ستنخفض أم لا". وزادت الصين استخدامها للوقود الأحفوري عام 2018، بعد ثلاثة أعوام من توقيع اتفاقية باريس للمناخ، رغم ادعاء بكين بأنها ستكون رائدة في الاستثمار في الطاقة المتجددة.
ويأخذ منتقدو اتفاقية باريس على الدول الموقعة عدم إدراجها نسب واضحة ومحددة مسبقاً لخفض الإنبعاثات ونصيب الفرد في ذلك. وشكل الانسحاب الأميركي فرصة للتفلت الصيني وغيره. وكان يفترض أن تخفض الولايات المتحدة انبعاثاتها بمقدار الربع بحلول عام 2025، مع تعهد أوروبي بخفضه بنسبة 40 في المائة بحلول 2030. المسؤولون الصينيون من جهتهم، رغم الإيجابية التي تحدثوا بها مع الأوروبيين قبل 5 سنوات. لكنهم في الوقت نفسه، لم يتعهدوا مطلقاً بإلزام أنفسهم بأرقام محددة. وقبل عامين، شكك تقرير اللجنة الدولية للتغيرات المناخية IPCC بقدرة العالم على مواجهة مشكلاته المناخية ما دامت الصين مستمرة في زيادة انبعاثاتها رغم توقيعها على اتفاقية باريس للمناخ.
وأكثر ما يقلق أوروبا التي تعمل على التحول إلى الاقتصاد الأخضر، من اسكندينافيا شمالاً مروراً بألمانيا وفرنسا وصولاً إلى إسبانيا جنوباً، هو استمرار الصين في استخدام الوقود الأحفوري، وزيادة استخدامها الفحم منذ عام 2016 بحسب وكالة الطاقة الدولية، والتي تقدر أن ربع محطات الطاقة الجديدة التي ستبنى حتى عام 2040 ستعمل بالفحم. وتشكل إنبعاثات الصين الملوثة للمناخ مشكلة حقيقية للموقعين على الاتفاقية. وبحسب إحصائيات البنك الدولي عام 2015، تنتج الصين 70 في المائة من طاقتها عن طريق حرق الفحم، فيما تقدر النسبة في أميركا نحو 34 في المائة، و25 في المائة في الاتحاد الأوروبي، ولا تتجاوز في السويد 0.67 في المائة.
فرصة أخيرة
وتلفت وسائل الإعلام والأحزاب الاسكندينافية والألمانية إلى ضرورة الضغط على حكومة بكين، بعدما لوحظ اندفاع الحزب الشيوعي الحاكم إلى محاولة تعويض تراجع النمو خلال فترة تفشي كورونا، بتشغيل المصانع بطريقة تساهم في تلوث البيئة بشكل أكبر. وحذرت صحيفة "اكسبرسن" السويدية، بحسب تقريراللجنة الدولية للتغيرات المناخية الصادر قبل عامين: "أمامنا 10 سنوات لفعل شيء، وإلا فسنكون في مواجهة وضع جهنمي".
ولا يبدو قلق تلك الدول أقل بعد اتفاقية باريس، بسبب توسع الصين في إنتاج الصلب، وفقاً لتقارير دول الشمال المهتمة عملياً بتغير المناخ وتأثيره عليها من نواح عدة تتعلق بذوبان الجليد في غرينلاند ومساحات قطبية كثيرة، وخوف من ارتفاع منسوب مياه الشمال، بالإضافة إلى المساعي الصينية لمد استثماراتها إلى القطب والبحر المتجمد الشمالي.
وتسعى المفوضية الأوروبية إلى فرض ضرائب على التنقل من خلال الطائرات، لدفع الأوروبيين إلى تقليل تنقلهم من خلالها واستخدام القطارات بدلاً منها، والتي تعمل بمعظمها على الطاقة الكهربائية، في وقت تجري نقاشات أخرى هذه الأيام، بعد مرور 5 سنوات على توقيع الاتفاقية. فالصناعات وراء الحدود، وخصوصاً الصين التي تعد مصنع العالم، وتساهم في 32 في المائة من الصناعات التي تعد ترفيهية، بحسب شركة الاستشارات "باين أند كومباني"، قد تعود، نتيجة لتفشي فيروس كورونا.
ورغم أن الغرب يحمل الصين مسؤولية كبيرة في الانبعاثات المضرة بالمناخ، إلا أن دولاً أخرى قريبة من القارة، كروسيا ودول جنوب شرق أوروبا وإيطاليا، يتحملون نصيباً أيضاً من تلك الانبعاثات.