يبدو أن لا حلول جوهرية لمشاكل الحوادث الطبية في مصر، فلا ضمانات لحقوق المرضى، والإجراءات الطبية المتبعة ليست في إطار واضح، ما يعزز احتمال حصول حوادث قد تصل إلى درجة الجرائم، وتكرّس الواقع القاتم للمسؤولية الطبية المفقودة.
أمرت النيابة العامة المصرية، الأربعاء 23 نوفمبر/ تشرين الثاني، بإحالة صاحبة صيدلية وعاملة فيها إلى محكمة الجنايات بتهمة إعطاء طفلتين تدعيان إيمان وسجدة حقنتين خاطئتين تسببتا في مضاعفات صحية لهما، ثم موتهما. واستندت النيابة العامة في قرارها إلى إفادات وفرها 9 شهود وتقريري استجواب المتهمتين، إلى جانب بيانات فحوص مصلحة الطب الشرعي، ونتائج المعاينة الميدانية التي أجرتها النيابة العامة للصيدلية حيث حصلت واقعة، ومشاهدتها تسجيلات كاميرات المراقبة فيها.
وأثبتت التحقيقات أن عاملة الصيدلية المتهمة حقنت، من دون أن تملك تصريحاً بمزاولة مهنة الطب البشري، الطفلتين الضحيتين بمادة "سيفوتاكسيم" التي جعلتهما تصابان بحساسية كبيرة.
وأشارت النيابة العامة إلى أن "حقن المرضى من الأفعال التي تمسّ جسم الإنسان، ويُحظر تنفيذه من دون الحصول على تصريح بمزاولة مهنة الطب. وقد أدى فرط حساسية الطفلتين للمادة في الحقنتين إلى مضاعفات أدت إلى إصابتهما بهبوط في الدورة الدموية، وفشل في وظائف التنفس، ما أفضى إلى موتهما بحسب تقرير أصدرته مصلحة الطب الشرعي، وأثبته تشريح جثماني الطفلتين".
وتابعت النيابة العامة أن "التحقيقات أكدت أن الصيدلانية شاركت مع المتهمة العاملة في ارتكاب الجريمة، لأنها حرضت العاملة على حقن الطفلتين في وقت تعلم أنه غير مصرح لها بمزاولة مهنة الطب، وساعدتها في تنفيذ مهمتها بطريقة سيئة عبر السماح لها باستخدام الأدوات والمواد والعقاقير اللازمة للحقن داخل الصيدلية، فحصلت الجريمة بناء على التحريض والمساعدة".
وبين الأدلة التي استندت إليها النيابة العامة لاتهام الصيدلانية والعاملة، شهادتا والدي الطفلتين المجني عليهما اللذين أكدا أن العاملة في الصيدلية حقنت ابنتيهما بالعقار من دون إجراء اختبار حساسية لهما. وأكد تقرير النيابة العامة الصفة التشريحية لجثماني المجني عليهما، في حين أبلغ رئيس قسم الطب الشرعي في الإسكندرية النيابة العامة أن "وفاة المجني عليهما كانت نتيجة فرط في الحساسية للمادة التي حُقنا بها، والتي تسببت في مضاعفات بجسميهما انتهت بوفاتهما. والسبب المباشر في الوفاة هو حقنهما بالمادة من دون إجراء اختبار خاص بالحساسية".
ووجهت النيابة العامة إلى العاملة في الصيدلية تهمة "مزاولة مهنة الطب البشري من دون تقييدها في سجلات الأطباء، ومزاولتها مهنة الصيدلة بلا ترخيص"، وإلى الصيدلانية تهمة "السماح للعاملة بمزاولة المهنة باسمها داخل الصيدلية". وأمرت النيابة العامة بنسخ صور من الأوراق الخاصة بباقي الوقائع التي كشفتها التحقيقات للتصرف بها في شكل مستقل.
وقد جددت هذه الواقعة المطالب بإقرار قانون "المسؤولية الطبية" لصالح استقرار كل جوانب المنظومة الطبية، وأولها مصلحة المريض، علماً أن عدداً من نواب البرلمان قدموا أخيراً، مشروع قانون لـ "المسؤولية الطبية" يحتوي على مواد تفصيلية بواجبات والتزامات الطبيب، أو مقدم الخدمة الطبية، ما يضمن حقوق المريض، ويضع الإجراءات الطبية المتبعة في إطار واضح، علماً أنه بين المواد أيضاً تشكيل لجنة عليا للمسؤولية الطبية من أجل تلقي الشكاوى في شأن الأضرار الطبية، ومنحها حق إنشاء لجان فرعية، وكذلك إقرار عقوبة الحبس والغرامة على المتعدي على المنشآت الصحية والعاملين فيها.
وأعلن مجلس النقابة العامة للأطباء، في بيان رسمي، أمس الأحد، رفضه مشروع قانون المسؤولية الطبية المقدم من نواب برلمانيين، وأكد تمسكه بمشروع القانون الذي سبق أن تقدمت به النقابة للحكومة، وسيتخذ في سبيل ذلك جميع المسارات الشرعية والقانونية.
وفندت النقابة في بيانها مشروع القانون، واعتبرت أنه "يعصف بمفهوم المسؤولية الطبية، ويفاقم المشكلات القائمة، ولن يكون سوى قشة تساهم في هجرة ما تبقى من أطباء مصر، إذ أكد مشروع القانون على عقوبتي الحبس والغرامة مجتمعتين بحق مقدم الخدمة الذي يتسبب في ضرر طبي، مساوياً بينه وبين مقدم الخدمة غير المرخص له، كما زاد من أعباء مقدم الخدمة بمسؤوليته عن صلاحية الأجهزة والأدوات الطبية المستخدمة، والتي من المفترض أن تكون مسؤولية المنشأة، كما أن مشروع القانون لم ينص على تشكيل لجان فنية نوعية في التخصصات الطبية المختلفة تنظر تحديد المسؤولية عن الضرر الطبي".
وأشارت النقابة في بيانها إلى أنه على مدار عدة سنوات مضت يتم تداول أهمية تشريع قانون للمسؤولية الطبية، وخلال هذه السنوات طرحت نقابة أطباء مصر عدة مشروعات للقانون، كان آخرها في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وكان يؤكد على إقصاء مقدم الخدمة الطبية غير المرخص له، والمنشآة الطبية غير المرخص لها، ومحاسبة المخطئ منها بقانون العقوبات، واقتصار نظر قانون المسؤولية الطبية على قضايا الضرر الطبي المتهم فيها مقدم الخدمة والمنشآة الطبية المرخص لهما، وإلغاء عقوبة الحبس في الضرر الطبي، وإقرار التعويض المادي تبعاً لنسبة الضرر إذا كان الخطأ من الطبيب والمنشآة الطبية، وليست مضاعفات متعارف عليها طبياً، أو بسبب عدم اتباع المريض التعليمات الطبية، واقترحت النقابة إنشاء صندوق للتعويضات عن الضرر الطبي، تكون موارده مستقطعة من مقدمي الخدمة والمنشآت الطبية ضمن وثيقة تأمين إجباري ضد الأخطاء الطبية.
وتابعت النقابة في بيانها: "يقيناً من نقابة أطباء مصر أن قانون المسؤولية الطبية حماية للمريض من الطب الدفاعي الذي أصبح يمارسه مقدم الخدمة بعدم التصدي لمناظرة المريض، وبالأخص في الحالات الحرجة، وحماية لمقدم الخدمة من التردد على ساحات القضاء وتهديده بعقوبة الحبس، فإن النقابة سعت خلال السنوات الماضية لتوعية الرأي العام بأهداف هذا القانون، وعقدت جلسات مناقشة مع العديد من الجهات والأشخاص، والذين أكدوا جميعاً على تبنيهم لمنظور نقابة الأطباء، خاصة وأن دولاً عديدة سبقت مصر في تشريع قانون المسؤولية الطبية بهذا المنظور".
ومنذ سنوات طويلة، يطالب الأطباء في مصر الحكومة والبرلمان بإدخال تعديل تشريعي يغلظ عقوبات الاعتداء عليهم أثناء تأدية عملهم، باعتبار أن "العقوبات الحالية المحددة بالحبس لمدة 6 أشهر كحد أقصى غير رادعة، في وقت تصل إلى السجن مدة 10 سنوات في بعض الدول العربية، مثل السعودية والإمارات". واقترحت نقابة أطباء مصر قبل نحو عامين مشروع قانون تضمن 30 مادة خاصة بمسؤولية مقدمي ومتلقي الخدمات الطبية.
ومع كل واقعة إدانة بسبب خطأ أو مسؤولية طبية، تجدد نقابة الأطباء في مصر نشر مشروع قانون "المسؤولية الطبية" الذي قدمته إلى مجلس النواب في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، وذلك استناداً إلى نتائج جلسات نقاش عقدتها مع خبراء في المهنة وقانونيين وأعضاء في مجلس النواب، لكنها تجنبت فيه ملاحظات أرسلتها وزارة العدل لمجلس النواب عام 2018.