لا خيار لدى عائلة القيادي بحركة فتح، الشهيد ناصر أبو حميد، سوى إطلاق فعاليات شعبية متكررة للمطالبة باسترداد جثمانه الذي قررت سلطات الاحتلال الإسرائيلي احتجازه بعد استشهاده في العشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي.
"لا عزاء في ناصر أبو حميد"، هكذا قررت عائلته، ونصبت خيمة في مسقط رأسه بمخيم الأمعري جنوب مدينة البيرة الملاصقة لمدينة رام الله وسط الضفة الغربية، للمطالبة باسترداد جثمانه، ثم أطلقت "مسيرة الخلود" باتجاه حاجز قلنديا العسكري المقام شمال القدس، وحمل المشاركون في المسيرة نعشاً رمزياً للمطالبة باسترداد جثمان ناصر الذي حرم من العلاج، ومن نقله إلى مستشفى مدني لرعايته، أو الإفراج عنه طيلة أكثر من عام من مرضه بالسرطان، لينتهي به المطاف شهيداً، ثم احتجز الاحتلال جثمانه في ثلاجاته، رغم أنه أمضى أكثر من 20 عاماً متواصلة في السجون.
حال عائلة أبو حميد، وخصوصاً والدة الشهيد "أم ناصر"، لا يختلف عن أحوال الكثير من أمهات الشهداء الذين يحتجز الاحتلال جثامينهم، وبعضهم منذ سنوات طوال، ومن بينهم 11 استشهدوا في سجون الاحتلال، فقد أصبح دفن أبنائهم أمنية تبرد قلوبهم التي تشتعل بنار الشوق لاحتضان جثامينهم، وكأنه لا يكفي الأمهات وجع الفقد، ليضيف تعنت الاحتلال معاناة أخرى هي احتجاز الجثامين.
تقول والدة الشهيد ناصر أبو حميد، لـ"العربي الجديد": "أريد جثمان ابني، وكل جثامين الشهداء المحتجزة لدى الاحتلال، نريد أن نكرمهم وندفنهم في أرض فلسطين التي ناضلوا وضحوا من أجلها".
فرض الإهمال الطبي الذي عانى منه الشهيد طيلة فترة مرضه على العائلة ألماً مضاعفاً، إذ لم تنفع كل المناشدات لإنقاذ حياته، وتؤكد أمه: "لن أسامح أحداً، ففقد ظل ابني يعاني لأكثر من عام، ولم يستطع أحد أن يفعل شيئاً. إلى متى سنظل صامتين".
بدورها، تتمنى الحاجة نجمة حمدونة، والدة الشهيد ياسر حمدونة، من بلدة يعبد جنوب غرب جنين، أن تهدأ قلوب أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم لدى الاحتلال الإسرائيلي عبر استرداد جثامين أبنائهم ودفنها، مثلما هدأ قلبها حين استشهد ابنها في سجون الاحتلال قبل أكثر من 6 سنوات، وجرى تسليمهم جثمانه، لتتحول "أم ياسر" إلى أيقونة ترمز لاحتضان الأمهات جثامين الأبناء الشهداء.
استشهد حمدونة في شهر سبتمبر/أيلول 2016، بعد إصابته بسكتة دماغية في مستشفى "سوروكا" الإسرائيلي التي نقل إليها من سجن "ريمون"، وكان محكوماً بالسجن المؤبد منذ عام 2003، وعانى من مشاكل في القلب، تبعها إهمال طبي متعمد ومماطلة في تقديم العلاج.
تقول والدة الشهيد ياسر لـ"العربي الجديد": "لا أحد يمكنه أن يشعر بحجم الحزن إلا من جرب فقد ابنه. لن أتوقف عن المشاركة في فعاليات الأهالي المطالبة باسترداد جثامين الشهداء حتى استرداد كل الجثامين. رغم شوقي إلى ياسر حين كان في سجون الاحتلال، إلا أن قلبي برد قليلاً باحتضان جثمانه، ويجب أن لا نترك أهالي الشهداء وحدهم، بل على الجميع مساعدتهم بشتى الطرق لاسترداد جثامين أبنائهم".
يحاول أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم التحلي بالصبر رغم أنهم يعيشون الألم مرتين
قبل شهر واحد، كشفت الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء المحتجزة عن جدارية فنية تمثل احتضان الأمهات لجثامين أبنائهم. في الجدارية رسم لوالدة الشهيد ياسر حمدونة بينما تحمل نعشه. الجدارية رسمها الفنان فؤاد يماني على جدار في ميدان عام بوسط مدينة البيرة.
تعلق أم ياسر: "أنا سعيدة لوجود كثيرين يهتمون بأهالي الشهداء. الاهتمام بمعاناتهم واجب ديني ووطني، فمثلما ضحوا بأرواحهم، يجب الوقوف إلى جانب أهاليهم، وعدم تركهم وحدهم في مواجهة الاحتلال".
ويشدد منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء، حسين شجاعية، خلال حديث مع "العربي الجديد"، على أن الجدارية هدفها تسليط الضوء على سياسة الاحتلال الإجرامية لاحتجاز جثامين الشهداء، وتم اختيار والدة الشهيد ياسر حمدونة، كون صورتها بينما تحتضن جثمان ابنها باتت أيقونة، وهذا كل ما يتمناه أهالي الشهداء المحتجزة جثامينهم.
ويقول صاحب الجدارية الفنان فؤاد يماني لـ"العربي الجديد": "لوحة أم الشهيد التي تظهر بها والدة الشهيد ياسر تحمل نعش ابنها، تمثل نموذجا لكل أم فلسطينية مناضلة وصامدة. والدة الشهير ياسر أصبحت أيقونة فلسطينية، فقد انتظرت ابنها طيلة المدة الطويلة التي قضاها في سجون الاحتلال، لكنه عاد إليها شهيداً. اللوحة يبلغ عرضها أربعة أمتار ونصف المتر، وارتفاعها 7 أمتار، واستغرق رسمها أسبوعا كاملا، وهي تظهر جريمة احتجاز الاحتلال لجثامين الشهداء، ومواصة الأهالي المطالبة باسترداد جثامينهم".
يقول عبد الإله جرار، والد الشهيد نور جرار، من مدينة جنين، لـ"العربي الجديد": "أصبح دفن الشهيد أمنية. أصبح الأهالي يتمنون أن يكونوا مثل أم الشهيد ياسر، فيتمكنوا من احتضان جثامين أبنائهم ومواراتهم الثرى. قضية احتجاز جثامين أبنائنا شلت تفكيرنا، فهل من المعقول أن تصبح مواراة الثرى أمنية؟ هل يرغب أي إنسان في دفن ابنه؟ بالتأكيد لا. لكن ذلك الأمر أصبح في واقعنا الفلسطيني حلماً ننتظر تحققه. كل يوم يمر وجثامين أبنائنا محتجزة يشكل لنا معاناة إضافية".
يضيف جرار: "الأهالي يحاولون التحلي بالصبر، فهم يعيشون الغصة والألم مرتين؛ مرة بسبب استشهاد أبنائهم، والثانية بسبب الألم المتجدد بحرمانهم من احتضانهم بعد استشهادهم ثم دفنهم، وهناك تقصير فلسطيني رسمي، إذ على الجميع التحرك للمطالبة باسترداد الجثامين".
قبل 14 سنة، أطلق مركز القدس للمساعدة القانونية حملة لتفعيل القضية، أطلق عليها اسم "الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء"، وهدفها العمل عبر القانون واستخدام الفعاليات المختلفة، محلياً وعربياً ودولياً، لاسترداد الجثامين. يقول منسق الحملة، حسين شجاعية: "كل جهد مطلوب لتفعيل قضية استرداد جثامين الشهداء، سواء جماهيرياً، أو مؤسساتياً، أو على المستوى السياسي. ينبغي الضغط على الاحتلال لاسترداد جثامين الشهداء".
ويؤكد مدير مركز "شمس" لحقوق الإنسان، عمر رحال، في حديث لـ"العربي الجديد"، على أنه "بات مطلوباً من السلطة الفلسطينية التوجه إلى مجلس الأمن من أجل استصدار قرار يجبر الاحتلال على تسليم جثامين الشهداء المحتجزين بمقابر الأرقام والثلاجات، بمن فيهم الأسرى الشهداء".
يضيف رحال: "القرار الذي يمكن لمجلس الأمن استصداره يجب أن يشمل إجبار إسرائيل على عدم استخدام سياسة احتجاز جثامين الشهداء في المستقبل، باعتبار أن ذلك عقوبة لأهاليهم. إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تنفذ سياسة احتجاز جثامين الشهداء، وهي تخرق القانون الدولي الإنساني، إذ إن من يتوفون في الأسر يجب أن يدفنوا في مقابرهم باحترام وفقاً لشعائرهم الدينية، وهذا الأمر يؤكد على ضرورة تسليمهم لعائلاتهم".
وخلال عام 2022، بلغ عدد الشهداء الفلسطينيين 230 شهيداً، من بينهم 171 شهيداً من الضفة الغربية بما فيها القدس، و53 شهيداً من قطاع غزة، و6 من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وتواصل قوات الاحتلال احتجاز جثامين 28 منهم، في حين يحتجز الاحتلال جثامين 116 شهيداً منذ عام 2015، فضلاً عن 256 جثمانا محتجزاً من قبل ذلك في مقابر الأرقام.
ويوضح المحامي المقدسي، محمد محمود، أنه "قبل عام 2017 كان الاحتلال يحتجز جثامين الشهداء الفلسطينيين وفقاً لقرار القائد العسكري للضفة الغربية المحتلة بناء على البند 3 من قانون الطوارئ لسنة 1948، وبعدها تمت مداولات قضائية، واستؤنف عليها، ثم عقدت جلسة محكمة تضم 7 قضاة إسرائيليين، ليقرروا صلاحية احتجاز الجثامين بناء على ذلك البند من قانون الطوارئ".
ويضيف المحامي الفلسطيني: "قرر المجلس الأمني الإسرائيلي المصغر (الكابينت) في عام 2021، أنه توجد صلاحية لاحتجاز الجثامين، ليس فقط بالنسبة لمن تؤدي عملياتهم إلى قتل إسرائيليين، بل أيضاً كل من يقوم بعملية يستخدم فيها آلة حادة أو سلاح ناري"، ما وسع من دائرة احتجاز الجثامين التي كانت سارية بالفعل.