يبدي المجتمع السوري رفضه المطلق لكل أسباب ودوافع ارتكاب جرائم القتل الأسري، لكنها زادت في الفترة الأخيرة، وبينها قتل الطفلة ياسمين الحنطاوي في مدينة منبج بمحافظة حلب (شمال) التي تخضع لسيطرة "قوات سورية الديمقراطية" (قسد) نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي.
ويروي أحد سكان منبج ويدعى محمد الخضر لـ"العربي الجديد" أن الطفلة البالغة خمس سنوات خرجت من البيت لشراء أغراض من دكان بقالة مجاور، ثم عثر على جثتها في شارع بالسوق.
وبعد أيام، كشف جهاز الأمن الداخلي التابع لـ"قسد" تفاصيل الجريمة، وكتب على موقعه الرسمي: "أظهرت الجريمة أن مرتكب الجريمة هو الشقيق الأكبر للفتاة، وأن اثنتين من شقيقاته تسترتا على الجريمة استناداً إلى اعترافات أدلتا بها. والجاني يتعاطى المخدرات، ومطلوب لدى العدالة بتهمة ترويج مواد مخدّرة".
وشملت جريمة أخرى آيات الرفاعي في ليلة رأس السنة. وأوضح مصدر طبي في مستشفى المجتهد وسط العاصمة دمشق أنها توفيت قبل ساعتين من وصولها إلى المستشفى بتأثير كدمات على جسمها، فيما قال ذوو زوجها إنها "صدمت رأسها بجدار المنزل حتى فارقت الحياة، بسبب خلافات عائلية.
ولاحقاً، أبلغت رهف شقيقة آيات صحيفة "كيو ستريت جورنال" الموالية للنظام أن "آيات كانت تخشى من عائلة زوجها التي هددتها بحرمانها من طفلتها، وتعرّضت للعنف مرات على أيدي زوجها وأفراد من عائلته. وقد أخفت معاناتها لفترة، ثم أخبرتنا مرة أنها تعرضت لضرب على يد والدة زوجها، فتوجه والدي إلى عائلة زوجها، ونشب خلاف كبير. ثم ضغط الزوج وعائلته على شقيقتي كي تتوقف عن إخبارنا بما يحدث معها".
غطاء القتل
يعلّق الباحث الاجتماعي طلال المصطفى، على ارتفاع معدلات الجرائم الأسرية بالقول لـ"العربي الجديد": "أي جريمة بينها تلك الأسرية التي يرتكبها فرد من الأسرة ضد آخر، سواء أب ضد ابنه أو شقيقه أو شقيقته، هي نتاج المجتمع المحلي أو السوري الكبير، فالأسرة هي المجتمع المصغّر. ويعني ذلك أن الجرائم تتأثر بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالمجتمع الذي يخضع لأسس وركائز توفرها المؤسسات التعليمية والقانونية والسياسية وحتى الدينية، والتي تجعل تحديد العوامل والأسباب وراء ارتكاب الجرائم أمراً غير سهل، علماً أن التحقيق الجنائي قد يكشف حيثياتها ومرتكبيها، أكان أبا أو أخا أو شخصا آخر، لكننا لا نحمل كباحثين اجتماعيين مرتكب الجريمة المسؤولية مباشرة، لأنه قد يكون بدوره ضحية ثقافة مجتمعية ناتجة من أساليب التربية والتنشئة، أو حتى المؤسسات الدينية وخطابها، أو أيضاً الخطاب السياسي".
ويشدد المصطفى على أنّ "عوامل اجتماعية قانونية واقتصادية وحتى نفسيّة قد تقود إلى ارتكاب الجريمة، لذا من المفيد تحديدها من أجل توضيح الأمور. فعلى سبيل المثال، تشرّع الثقافة المجتمعية السورية، خصوصاً في المناطق المحلية والأرياف تأديب الأب أو الزوج أو الأخ أفراداً آخرين. والأب يملك حق تأديب البنت أو الابن أمام مرأى الجميع في بيته من دون أن يتدخل أحد، وذلك بخلاف المجتمعات الأوروبية الّتي تمنع تعنيف الطفل أو أي شخص. وهذه الأشكال العنيفة قد تبلغ حدّ ارتكاب جريمة قتل فرد من الأسرة، مع توفير الثقافة السورية المحلّية الغطاء لها والذي ينشر الفعل الجرمي. أيضاً يشرّع الفهم الخاطئ للأحاديث الدينية والآيات القرآنية، والذي يرتبط أحياناً برجال الدين نفسهم، العنف الجرمي ضد الأبناء بحجة التربية والتأديب، وهو الغطاء الذي اعتمد في تبرير جريمة قتل آيات".
وتطرّق المصطفى لجريمة آيات قائلاً: "أعتقد بأنّ ثقافة أهلها قضت بأنه يحق لزوجها وعمها وحماتها توجيهها وتأديبها، فهي أصبحت ملك الزوج وأهله الذين يحق لهم التّصرف بها. فزواجها لا يجعلها ملكاً لأسرتها كما كان الحال قبله. ولا بد من القول إنّ جريمة آيات حظيت بفرصة الظهور إلى العلن وتداول وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وقائعها والتفاعل معها، لكن هناك مئات الجرائم المماثلة التي لا يتحدث عنها أحد، خصوصاً في مناطق ريفية ومحلية لا تتوفر فيها وسائل الإعلام في شكل كثيف. والعوامل الاقتصادية والفقر تلعب دوراً في حرمان النساء من الحصول على حقوقهن في العمل والميراث وامتلاك استقلالية مادية والمالية، ما يشجّع على ارتكاب الجرائم والعنف ضدهن".
النظام المحفّز
ويشدد المصطفى على أنّ المسألة الأهم هي نسق العنف والجرائم التي ترتكبها سلطة النظام منذ سنوات على مرأى الناس وفي الشوارع والحواجز، والذي يشجع ويوفر البيئة المناسبة لارتكاب مزيد من الجرائم، علماً أن تبرير نسبة كبيرة من السوريين العنف الذي قد يصل إلى ارتكاب جرائم بذريعة حق الأب والأسرة في تأديب الأبناء يخلق قبولاً اجتماعياً سيئاً جداً للوقائع المؤسفة".
يضيف: "في النهاية لا جريمة مقبولة أو غير مقبولة، لا يمكن منحها أي نوع من الشرعية حتى عبر مبررات نفسية. واختصاصيو علوم النفس قد يربطون الجريمة بسلوك فردي ناتج من القلق والتوتر والاكتئاب والأمراض النفسية، لكنه يتعلق في النهاية بمناخ اجتماعي ثقافي يدفع إلى ارتكاب مزيد من الجرائم، وهو ما حصل في قضية آيات، حين زعم البعض أنّ زوجها متوتر وقلق ومريض نفسي، لكن هذا غير صحيح، فالمجتمع السوري كله مسؤول عن جريمتها".
ويعتبر المصطفى أن "جريمة قتل آيات تشكل نموذجاً لمقتل آلاف السوريات. فالمجتمع كله يتحمل المسؤولية، ويجب أن يملك كلّ فرد فيه الشجاعة الكافية لرفض هذه الجرائم، وأيّ نوع من المواربة أو التخفّي وراء مبررات لا يمكن قبولها اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً وحتى دينياً. كما يجب أن يتحلى رجال الدين بمواقف واضحة وشفافة من هذا الموضوع، ويعبرون عنها بكلمات صارمة بعيدة عن أي غطاء. وقتل النساء عموماً لا يمكن تسميته بجرائم الشرف، لأن لا علاقة له بأي شرف أو أخلاق".
ويلفت إلى ضرورة درس الباحثين والاختصاصيين الحالات الخاصة بجرائم القتل الأسري باعتماد وسائل علمية وأكاديمية بعيداً عن قيود الدين والقيم والأعراف والتقاليد، وأن يملكوا الجرأة والشجاعة لمواجهة العقائد التي تبرر جرائم العنف العائلي، فالابن ليس ملكاً للأبّ أبداً لا دينياً ولا أخلاقياً ولا قانونياً. هناك حقوق وواجبات للأم والأب تجاه الأطفال والباقين، لكن لا يحق لهم أن يرتكبوا أي فعل عنيف باسم التأديب. ودرس الظاهرة في شكل علمي وأكاديمي هو الطريق الوحيد لتحقيق هدف وقف الجرائم الأسرية".
انتشار واسع
ومن الجرائم الأسرية التي شهدتها سورية أيضاً أخيراً، مقتل حسين خضور بواسطة فأس تستخدم في قطع الأشجار في بلدة الشيخ بدر بطرطوس. وقد كشفها إلى العلن القاضي والمستشار في النظام السوري عمار بلال الذي أشار إلى أنّ المتهمين هم زوجة المقتول وأبناؤه وشقيق زوجته الذين "ارتكبوا الجريمة بدافع الاستحواذ على ممتلكاته".
وتمتد الجرائم الأسرية على كل أراضي سورية، باختلاق الجهات التي تسيطر عليها، سواء في مناطق النظام أو تلك التي تخضع لنفود "قسد" (شمال شرق)، أو مناطق الجيش الوطني في الشمال، أو هيئة "تحرير الشام" في جزء من محافظتي إدلب وحلب.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، شهدت مدينة حارم بمحافظة إدلب جريمة أسرية راح ضحيتها ثلاثة أطفال قتلهم والدهم رميا بالرصاص. وتراوحت أعمار الأطفال بين 10 و16 عاماً. وأورد بيان نشرته الشرطة: "هزت جريمة بشعة وجدان أهالي مدينة حارم، حيث قتل رجل أولاده الثلاثة".
ونقلت صحيفة "الوطن" الموالية للنظام عن هيئة الطب الشرعي السوري أنّ 414 جريمة قتل ارتكبت في سورية العام الماضي، وأسفرت عن مقتل 353 من الذكور و61 من الإناث، علماً أنّ هذه الإحصاءات تقتصر على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام.
ووفقاً لموقع "نمبيو" المتخصص في الإحصاءات حول الجرائم، تحتل سورية المركز التاسع في نسبة الجرائم المرتكبة عالمياً. وقد ربط أسباب ارتفاع الجريمة بانتشار السلاح العشوائي والفقر.