ليس صعباً ملاحظة أن عبارة "نلتقي بعد العصر أو الظهر أو المغرب" التي يستخدمها الجزائريّون عادة لتحديد مواعيدهم، باتت مثلاً خلال مونديال قطر 2022 الحالي "نلتقي بعد مباراة فرنسا وإنكلترا"، أو "بعد لقاء هولندا والأرجنتين"، أو "بعد لقاء المغرب والبرتغال"، ما يشير إلى الشغف العميق لقطاع واسع منهم بالعرس الكروي العالمي.
غداة افتتاح مونديال قطر، أظهرت حركة الشراء في متاجر بيع المواد الغذائيّة، تكييف ربّات البيوت خياراتهن مع البرامج الغذائية الخاصة بمشاهدة مباريات المونديال في المنازل، وشملت الأجبان والمعلّبات والأكلات الجاهزة وشبه الجاهزة، والفشار والمكسّرات، والمواد السهلة السريعة التّحضير، مثل المعجنات.
تقول ربيعة ش. لـ"العربي الجديد": "كوني ربّة بيت مسؤولة، لا أستطيع أن أترك أسرتي بلا طعام أثناء مباريات المونديال، لكنني مهتمّة بالمشاهدة أيضاً، ما يجعلني لا أطبخ إلّا أطباقاً سريعة لا تأخذ منّي وقتاً كبيراً. وقد يكون العشاء سباغيتي بالجبنة التي يكفيني ربع ساعة لتحضيرها".
وأدّى تراجع الطّبخ في البيوت، خاصة لوجبة العشاء التي تزامنت مع المباراة الليلية، بحسب توقيت الجزائر، إلى خروج عدد كبير من العائلات إلى المطاعم، "فمن المثير تتويج ساعات من المشاهدة المشتركة في البيت بعشاء مشترك في الخارج"، كما يقول عامل في السكة الحديدية لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "لا نتناول العشاء خارج البيت فقط لأنّ المباراة عطّلت مطبخنا، بل لأنّنا نستطيع أن نخلق نقاشات مع آخرين في شأن أداء المنتخبات، وتوقعاتنا الخاصة بالنتائج، ما يشكّل استعراضاً لثقافتنا الكرويّة".
ويختم بالحديث عن "صعوبة بدء الجزائري عموماً حديثاً مع أناس لا يعرفهم، لكنّ هذا الأمر يصبح سهلاً ومتاحاً خلال شهر كأس العالم. وقد خطبت أختي الصّغرى وتزوّجت، بفضل حديث نشأ بين أسرتنا وأسرة زوجها، في سهرة خلال مونديال البرازيل عام 2014".
وبالتأكيد لا يعلو حديث على المونديال بين مختلف الشّرائح في وسائل النّقل والفضاءات العامّة. والحديث عن حفل افتتاح مونديال قطر بقي طاغياً على الأحاديث الخاصة بالمباريات، حتى بعد مرور ثلاثة أسابيع.
ويرى الطالب الجامعي المتخصّص في علم النفس أسامة بلعمري، في حديثه لـ"العربي الجديد"، أنّ الاهتمام بحفل الافتتاح ثمرة للشغف الحضاري المتعلّق بالهوية، بينما الحديث عن تفاصيل المقابلات هو ثمرة للشغف الكروي. ومن الطبيعي أن يتغلّب الشغف العام على الخاص في التظاهرات الكبرى".
يضيف: "كلّ الأجيال العربية كبرت على عقدة النقص في علاقتها بالحضارة الغربية. وتجلّت تلك العقدة أكثر في كؤوس العالم، بحكم أنّ كرة القدم باتت تشكّل بؤرة الشغف الكوني. فكان العربي في كلّ مونديال يتساءل ما يمنع أن يكون المونديال وما يرافقه من إبهار عربياً؟ ثم حدث أن تولّت قطر تحقيق هذا الحلم له، وتضمن حفل الافتتاح في الدوحة كل مظاهر الفن والجودة والجدية والكفاءة والمعايير الدولية، مع روح عربية وإسلامية واثقة من نفسها، بدءاً بتسمية وشكل ملعب البيت الذي احتضن الافتتاح. وحدث ما يمكن أن نسمّيه التعويض الحضاري، حيث شعر كل عربي بكونه حضارياً، بعد عقود من النّظر إليه نظرة دونيّة". ويختم: "مهما بذلنا من جهود لرصد ما قامت به قطر في نفوس العرب والمسلمين، لن نستطيع أن نقف على العمق الحقيقي لإحساسنا بالامتنان تجاهها".
في ساحة مبنى البريد المركزي الذي شيّدته فرنسا عام 1913، تجمع عدد من الشباب قبل حفل الافتتاح، مردّدين عبارة: "تحيا قطر والكاميرون تأخذ الشّعر"، في إشارة إلى "انحياز" الحكم إلى المنتخب الكاميروني في التصفيات المؤهّلة لمونديال قطر، ما حرم المنتخب الجزائري من المشاركة في الاستحقاق. والتقط بعض هؤلاء الشباب صوراً أمام تمثال برونزي وُضع لتخليد منتخب كرة القدم التّابع لثورة التّحرير الذي تأسّس عام 1958. وكان تأسيسه سبباً في انسحاب بعض اللاعبين الجزائريين من المنتخب الفرنسي، منهم رشيد مخلوفي، قبل مشاركته في مونديال السويد عام 1958، ما تسبّب للفرنسيين في إحراج رياضي وسياسي.
وفيما كانت الأجواء باردة، باعتبار أن الجبال القريبة من الجزائر العاصمة مثلجة، لم تضع السلطات شاشات عملاقة في الساحات العامة، ما دفع الشّغوفين بالمشاهدة الجماعية إلى الذهاب إلى المقاهي التي استعد أصحابها للاستحقاق، عبر مضاعفة عدد العاملين للتحكم بالطّلبيّات.
وحين وقف أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني لإلقاء كلمته في حفل الافتتاح، تعالت هتافات الإعجاب، كما لو كان مسؤولاً جزائرياً. وعلّق أحدهم على سبب حماسه بالقول: "أنا لا أساند حاكماً أجنبياً، بل حاكم عربي مسلم قدّم خدمة حضاريّة للعروبة والإسلام كانا في حاجة إليها، بعد كمّ هائل من الإساءات والتشكيك".
ثمّ انخفض الهتاف لصالح صمت ترافق مع الهمس، أثناء اللّوحة التّي جمعت الشاب القطري غانم المفتاح مع الممثل الأميركي مورغان فريمان. وقال صاحب المقهى الملتحي: "إذا لم يفهم المسلمون هذا الموقف الذي يشير إلى أنّ الوقت حان للانخراط في طرق جديدة لخدمة الإسلام وتسويق مبادئه، فلن يفهموا ذلك أبداً".
وفي واقعة أخرى حصلت قبل المباراة الافتتاحية للمونديال التي جمعت بين قطر والإكوادور في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، طالبت امرأة كانت موجودة مع 7 آخرين في باص أجرة يربط الجزائر العاصمة بمدينة برج بوعريريج التي تبعد 200 كيلومتر شرقاً، السائق بالقيادة بسرعة أكبر كي لا تفوتها المباراة الأولى، فشكل ذلك مدخلاً لنقاش استمر ساعتين على امتداد الطريق، وتباينت فيه الآراء في شأن معايير التشجيع بحسب قوة الأداء أو قوّة الانتماء. وتخلّل النقاش نبرة تحسّر على غياب المنتخب الجزائري الذي أمل عدد كبير من الجزائريين في أن يعيد الاتحاد الدولي (الفيفا) مباراته مع نظيره الكاميروني.
وسأل أحد الركاب شابة متحمسة للمنتخبات العربية: كيف تتركين منتخبات تملك علاقة تاريخية بكأس العالم على صعد التنظيم والمشاركة والفوز، وتساندين أخرى حديثة العهد بالمونديال؟ فردت بأنّها تضع الانتماء القومي في صدارة معايير التشجيع، وقالت: "لن يكتمل إحساسي بشرف احتضان العرب كأس العالم إلّا إذا تألّق منتخب عربي في منافساته".
وسألها شخص بنبرة مستهزئة: "لا تقولي إنّك تنتظرين أن يصل منتخب عربي إلى النهائي؟ فقالت: "هل كنّا نتوقّع أن يمنح بلد عربي حق تنظيم المونديال، فما يمنعني من توقّع أن يبلغ منتخب عربي أدواراً متقدّمة؟".
وحينها تدخّل السائق قائلاً: "شخصيّاً أنا أساند عراقة المنتخب وقوّة أدائه على حساب جنسيته وطبيعة انتمائه، فليس منطقياً أن أترك منتخباً عالمياً مقنعاً، وأساند منتخباً عربياً مشاركاً فقط لأنّه عربيّ. وإذا كان لا بدّ من مراعاة الانتماء، فقد ساندت المنتخب السنغالي لكونه مسلماً، وصاحب أداء جيد في الوقت نفسه".
وإثر الوصول إلى المحطّة الواقعة على أطراف مدينة برج بوعريريج، لم يجد الركاب حافلة أو سيارة أجرة توصلهم إلى وسط المدينة، بعدما سخّر الجميع أنفسهم لمشاهدة مباراة مونديالية، ما اضطرّهم إلى مشاهدة المباراة داخل المحطة. وحين سأل أحدهم سائق أجرة توفّر بعد انتظار، كم سيتقاضى للذهاب إلى المكان المقصود، قال: "أخذت أجرتي فرحاً بتفوّق العرب في التنظيم. اركب. سنشعل المدينة بالتّزمير".