يحلّ موسم الحجّ هذا العام وسط درجات حرارة مرتفعة تجعل أداء المناسك أكثر صعوبة، نظراً إلى الإنهاك الناجم عن الحرّ الشديد. ويُعَدّ شهر يونيو/حزيران من أكثر الأشهر حرّاً في السعودية، لكنّ كثيرين من الحجّاج لا يعيرون الحرّ أهمية، ويركّزون على الفريضة بحدّ ذاتها وعلى أهميّتها.
ويتصبّب الحاج البريطاني عبد الله الأسد ويظهر عليه الإرهاق الشديد بعدما انتهى من أداء الصلاة في مكّة المكرّمة، لكنّه يقول بتحدٍّ إنّ الحرارة التي تجاوزت 43 درجة مئوية لن تنال من اندفاعه لتأدية المناسك المقدّسة لدى المسلمين. ويقول مروّج العقارات البالغ من العمر 48 عاماً والذي يعيش في لندن وسط درجات حرارة أقلّ بكثير من تلك التي تُسجَّل في السعودية، إنّ "الحرارة أفضل بكثير ممّا توقّعت". ويتابع الرجل الذي ارتدى ملابس الإحرام وقد احمرّ وجهه من جرّاء التعرّض للشمس لوكالة فرانس برس، أنّ "الغرض الرئيسي هو أن نؤدّي المناسك بالطريقة نفسها التي قام بها النبي (محمد) من دون مكيّفات وفي ظروف سفر وإقامة شديدة الصعوبة".
أمّا ليلى، زوجة الأسد، البالغة من العمر 47 عاماً، فقد استخدمت على مدى يومَين مروحة إلكترونية صغيرة، لكنّها قرّرت التخلي عنها وتحمّل الحرارة. وتقول المرأة، التي ارتدت عباءة داكنة اللون فيما كانت تستريح في مقهى بالقرب من الحرم لوكالة فرانس برس، إنّ "الحرارة ليست مشكلة خصوصاً في الصباح والمساء. المشكلة هي الازدحام والتدافع" في المناسك التي يتوقّع أن يؤدّيها أكثر من مليونَي مسلم.
وتذكّر الحرارة العالية المسلمين الذين توافدوا إلى غربي السعودية لأداء مناسك الأيام الخمسة، بتفاقم ظاهرة الاحترار المناخي وتداعياتها على مناخ صحراوي شديد الحرّ أصلاً. ومنذ عام 2017، يحلّ موسم الحج في أشهر أغسطس/ آب ويوليو/ تموز ويونيو/ حزيران التي تُعَدّ الأكثر حرّاً في السعودية ومنطقة الخليج. يُذكر أنّ الرياض تمنع العمل في الهواء الطلق من الساعة 12 ظهراً وحتى الساعة الثالثة من بعد الظهر، ابتداءً من 15 يونيو ولمدّة ثلاثة أشهر.
ويؤدّي الحجّاج المناسك، وكثير منها في الهواء الطلق، تحت شمس حارقة وفي أجواء خانقة، تتسبّب في أحيان كثيرة في ضربات شمس وحالات إعياء بالإضافة إلى توقّف عضلة القلب، فالهواتف الذكية بدورها تتوقّف عن تأدية بعض المهام في حال لم "تُبرَّد".
وتوقّع المركز الوطني للأرصاد الجوية في السعودية أن تتراوح درجات الحرارة في مدينة مكّة ما بين 43 و45 درجة نهاراً في خلال موسم الحج. لكنّ الحاج الإندونيسي بودي البالغ من العمر 40 عاماً يؤكّد لوكالة فرانس برس تحدّيه هذه الأجواء الصعبة. ويقول، وهو وكيل سفر يؤدّي مناسك الحجّ للمرّة الثانية، إنّ "الجو حار جداً ويجعل أجسادنا تتعرّق وتصير أكثر حرارة". يضيف باللغة الإنكليزية بتحدّ: "أنا مستمتع. (الحرارة) ليست عائقاً أمامنا. لدينا إيمان في داخلنا"، قبل أن يناوله صديق زجاجة مياه باردة ليروي ظمأه.
وبهدف تلطيف الأجواء في ساحات المسجد الحرام في مكّة، يُرَشّ الرذاذ المائي من أعمدة طويلة ومراوح ضخمة على مدار الساعة. ويقوم رجال أمن بسكب المياه على رؤوس الحجّاج ووجوههم في أجواء مرحة. وفي أرجاء المكان، يوزّع عمّال تابعون لهيئات سعودية مختلفة أو متطوّعون من أهل مكّة زجاجات مياه باردة على الحجّاج.
وفي ساعات النهار، من الممكن مشاهدة حجّاج مصابين بالإعياء من جرّاء الحرارة المرتفعة وهم يتلقّون علاجاً طبياً، أو آخرين يصبّون المياه فوق رؤوسهم الساخنة. وقد أقامت السلطات مرافق صحية كثيرة وعيادات متنقّلة وجهّزت سيارات إسعاف ونشرت 32 ألف مسعف لتلبية احتياجات الحجّاج.
"نار جهنّم"
لكنّ كلّ الإجراءات المتّخذة لا تخفّف من حدّة الشمس ودرجات الحرارة المرتفعة التي تجعل الرخام الأبيض المحيط بالحرم المكّي ساخناً كاللهب في منتصف النهار. وتدفع الحرارة الشديدة عشرات الحجّاج إلى الاحتماء في الظلّ الذي توفّره الأبنية المحاذية للمسجد أو الاختباء في داخل أروقة المسجد مفترشين السجاد تحت المراوح، فيما ينتظرون الصلوات.
ويحمل بعض من مناسك الحجّ مشقة، إذ لا يمكن للرجال وضع قبّعات منذ لحظة الإحرام ونيّة الحجّ. وفي خلال هذا الأسبوع، شوهِد كثيرون في المسجد الحرام يحمون أنفسهم بالمظلات وسجّادات الصلاة والأوراق المقوّاة، فيما تُغطّي النساء رؤوسهنّ بالحجاب.
وتقول السورية نيبال محمد البالغة من العمر 70 عاماً والتي تعيش في كندا، إنّ "الحرارة هنا غير طبيعية كما لو كانت نار جهنّم". تضيف أنّ "كندا ليست كذلك (...) أنتظر أن أحجّ وأغادر". من جهته، يقول باثر شيشة البالغ من العمر 55 عاماً والوافد من مقدونيا إنّ "هذا الطقس صعب جداً لمن يعانون من مشكلات في القلب".
تجدر الإشارة إلى أنّ وزارة الصحة السعودية دعت الحجّاج إلى استخدام المظلات في خلال النهار في أثناء تأدية المناسك، كذلك قدّمت لهم نصائح مختلفة لتجنّب ضربات الشمس، من بينها تجنّب الحجّاج المرضى أداء المناسك في منتصف النهار.
"تحمّل المشقة"
وقد سلّط ذلك الضوء على ارتفاع درجات الحرارة الذي يشدّد ناشطون في مجال البيئة على أنّه أمر لا بدّ من معالجته، من خلال التخلّص السريع من الوقود الأحفوري. وتُعَدّ السعودية أكبر مصدّر للنفط في العالم وتنتج يومياً 12 مليون برميل من الخام الأسود، في العادة.
وفي هذا الإطار، يقول الزميل غير المقيم في معهد الشرق الأوسط في واشنطن كريم الجندي لوكالة فرانس برس، إنّ "تغيّر المناخ يعيد تشكيل المشهد في المنطقة". يضيف أنّ "متوسط درجات الحرارة ارتفع بالفعل في الصيف في السعودية، بمقدار 2.5 درجة في العقود الأربعة الماضية بسبب تغيّر المناخ". ويتابع الجندي أنّه "من الممكن أن تصير درجات الحرارة القصوى في الصيف التي تصل إلى 50 درجة مئوية، ظاهرةً تتكرّر في سائر فترات السنة، بحلول نهاية القرن" الجاري.
لكنّ هذه التحذيرات لا تثبط من عزيمة بعض الحجّاج ولا تثنيهم عن معاودة الحجّ. وتقول الموظفة التونسية أحلام ساعي البالغة من العمر 40 عاماً إنّ "فكرة الحجّ أساساً تقوم على تحمّل المشقة". وتشير وهي تأخذ قسطاً من الراحة بالقرب من المسجد الحرام إلى أنّ "الحرّ في الخليج شديد جداً مقارنة ببلدي، لكنّه يظلّ عادياً وأتحمّله"، مشدّدة على أنّ "الأجر على قدر المشقة".
من جهته، يشير الشاب الروسي محمد رسولوف البالغ من العمر 19 عاماً، إلى أنّه يستمتع بالتجربة الفريدة على الرغم من الحرارة. ويقول لوكالة فرانس برس، إنّ "الحرارة ليست مشكلة لأنّنا هنا للاستمتاع بالصلاة في مدينة الله"، قبل أن يغسل وجهه بماء زمزم البارد.
(فرانس برس، العربي الجديد)