استمع إلى الملخص
- **نزوح وإيواء:** أكثر من 180 أسرة نازحة وصلت إلى أم درمان، حيث تم إيواؤهم في مدرسة تحولت إلى مركز إيواء، والجزيرة أصبحت شبه خالية.
- **ظروف قاسية ومناشدات:** النازحون يعيشون في ظروف صعبة بمراكز الإيواء، ومنظمات حقوقية تدين الانتهاكات وتدعو المجتمع الدولي للتدخل وتقديم المساعدة الإنسانية.
انتهاكات كثيرة واجهها الفارون وتواجهها القلة القليلة التي بقيت في جزيرة التوتي من السودانيين، وقد اختار معظم أهلها المغادرة في ظل المعاناة اليومية التي فرضتها قوات الدعم السريع.
يُواصل أهالي جزيرة توتي، إحدى أشهر الجزر السودانية، الهرب من حصار مفروض عليهم وانتهاكات يومية بحقهم. ومؤخراً، أعلنت سلطات ولاية الخرطوم وصول أكثر من 180 أسرة نزحت من الجزيرة إلى مدينة أم درمان، غرب الخرطوم، بعدما ضاق بهم الحال في الجزيرة حتى بات البقاء فيها مستحيلاً. ووضعت السلطات العائلات في مدرسة تحوّلت إلى مركز إيواء، حيث يحصلون على مساعدات إنسانية عقب أشهر من المعاناة. وجزيرة توتي واحدة من أبرز معالم العاصمة الخرطوم وإحدى أقدم مناطقها، وتقع في نهر النيل الأزرق، وجعل منها موقعها قبلة سياحية. وقبل سنوات، كان السكان يستخدمون المراكب في تنقلهم إلى الخرطوم وأم درمان والخرطوم البحري قبل بناء جسر عام 2010 يربطها بوسط الخرطوم. وتبلغ مساحة الجزيرة نحو 900 فدان، ويبلغ عدد سكانها نحو 20 ألف نسمة. ورفض أهلها مرات كثيرة فكرة ترحيلهم، وتحويل الجزيرة إلى منتجع سياحي، خصوصاً أنها تقع على ملتقى النيل الأزرق مع النيل الأبيض.
وتأثرت جزيرة توتي بالقصف المدفعي العنيف المتبادل بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، حتى سيطرت عليها الأخيرة مستفيدة من موقعها الاستراتيجي وقصف عدد من مناطق الجيش بالمدافع. لكن تلك السيطرة تحولت، بحسب السكان، إلى عذاب يومي دفعهم إلى الهرب منها. وبحسب التقديرات، لم يبق داخل الحزيرة سوى 4 آلاف شخص.
وأغلقت قوات الدعم السريع الجسر الوحيد الرابط بين الجزيرة ومنطقة وسط الخرطوم، وفرضت حصاراً محكماً على الجزيرة، وقيدت حركة تنقل السكان والسلع الاستهلاكية والأدوية المنقذة للحياة. حاول السكان استغلال مراكب النقل النهري، لكن القوات طاردتهم وحظرتها، ما أدى إلى سقوط ضحايا، ولا سيما كبار السن وأصحاب الأمراض المزمنة. كما عاشت الجزيرة التاريخية أزمات أخرى نتيجة لانقطاع الكهرباء وتأثر خدمة المياه وقطع الاتصالات الهاتفية وخدمات الإنترنت.
وداخل مركز إيواء نازحي توتي بأم درمان، التقت "العربي الجديد" عدداً من الفارين من الجزيرة. وتقول راوية إن الجميع على علم بكل ما مرت به جزيرة توتي من حصار وذل وتجويع، ما سبّب وفاة عدد كبير من أهالي الجزيرة، مشيرة إلى أن أسرتها قررت المغادرة لأن والدها مصاب بمرض الفشل الكلوي، فأجبرت على دفع مبلغ 800 ألف جنيه (نحو 1365 دولاراً) في مقابل موافقة الدعم السريع على مغادرتهم المنطقة من خلال مركب عبر بهم إلى مدينة الخرطوم بحري، التي تقع أيضاً تحت سيطرة الدعم السريع. تسللوا خفية عبر طرقاتها الداخلية إلى أقرب موقف للحافلات لينتقلوا إلى مدينة شندي، شمال السودان. توفي والدها الذي لم يحتمل الرحلة الشاقة، خصوصاً أنه لم يتلق علاجه لمدة 90 يوماً، في شندي. عادت الأسرة إلى مدينة أم درمان لتعيش حياة النزوح التي ربما ستطول. وتوضح لـ "العربي الجديد" أن "البعض لا يملك المال لدفعه للمليشيا التي ارتكبت كل الانتهاكات بحق المدنيين".
وليد عمر خالد هو من سكان جزيرة توتي والمشرف على مركز إيواء في مدرسة المهاجر بمدينة أم درمان، وهو مركز يضم عدداً من الأسر التي خرجت من الجزيرة. ويقول لـ "العربي الجديد" إن الأشهر الأولى للحرب شهدت تدهوراً في الخدمات الصحية ونقصاً في الغذاء، لكن عقب وصول قوات الدعم السريع إلى الجزيرة، بدأت تمارس الانتهاكات من سرقة في وضح النهار، وضرب واغتصاب النساء، وطرد السكان من منازلهم، عدا عن الزواج القسري من فتيات من دون موافقتهن أو موافقة أسرهن، الأمر الذي دفع كثيرين إلى المغادرة.
إذن للخروج
ويشير خالد إلى أن الخروج من الجزيرة يحتاج إلى إذن من العمدة التابع لمليشيا الدعم السريع. ويجب على الطلب أن يتضمن أسباب الخروج، وغالباً ما لا يقبل أي سبب لا يتعلق بالصحة، على أن تدفع مبالغ معينة للخروج. ويوضح أنه اتخذ قرار المغادرة لأن زوجته أكملت أشهر حملها، ومن المقرر أن تخضع لعملية قيصرية وهو ما لا يتوفر في الجزيرة. ويشير إلى أن غالبية الأسر هربت لأن أحد أفرادها يعاني مرضاً مزمناً مثل السكري وضغط الدم والفشل الكلوي وغيرها. كما ساهم انقطاع التيار الكهربائي وأزمة المياه في دفع كثيرين إلى المغادرة، مبيناً أن توتي التي عُرِفت بترابطها الاجتماعي تفرقت أسرها الآن في ربوع السودان مثل كسلا وشندي وعطبرة وأم درمان.
ويوضح أن الخروج في البداية كان عبر مراكب الأمر الذي يعد خطراً في حد ذاته. ومع مرور الوقت، أوقفت المليشيا تلك المراكب ليصبح الخروج بعد ذلك عبر الجسر الرابط بالخرطوم وبواسطة حافلات تابعة للدعم السريع، موضحاً أن المبالغ التي تدفع لها تصل إلى 700 ألف جنيه (حوالي 1200 دولار) وصولاً إلى منطقة السوق المركزي، وتدفع مبلغاً مماثلاً إذا كنت تريد الوصول إلى مدينة أم درمان أو أي مدينة سودانية أخرى.
من جهتها، تقول المواطنة صباح الباقر إن انعدام الغذاء والكهرباء والمياه دفعها إلى الخروج من جزيرة توتي في رحلة طويلة شملت عدداً من الولايات، لتستقر أخيراً في مركز الإيواء في أم درمان مع مجموعة من الأسر النازحة من جزيرة توتي. وتأسف لبقاء أسر في الجزيرة، حيث يعيشون مأساة وضغوطاً نفسية. وتوضح لـ "العربي الجديد" أن الأسر التي لا تزال في توتي تعتمد على المطابخ الجماعية المدعومة من أبناء الجزيرة خارج السودان، ولا تصل إليهم أية مساعدات أخرى، مشيراً إلى أنه يصعب وصول الدعم المالي من أبناء المنطقة. تضيف أن النساء في توتي واجهن أصعب المواقف ولم تكن للمرأة حرية في الخروج من المنزل، بل تعيش خوفاً دائماً على نفسها. لذلك، اختارت الخروج رغم مصاعب الطريق وارتفاع كلفة حياة النزوح. ويوضح المواطن أبي محمد عمر أن الدعم السريع منعت عنهم الغذاء والدواء، كما منعت بائعي الخضار من جلبها من خارج الجزيرة، مؤكداً لـ "العربي الجديد" أن المطابخ الجماعية أنقذت السكان من الموت جوعاً، إذ توفر وجبة واحدة يومياً. يضيف أن الأهالي قرروا شراء الوقود بأنفسهم، لكن الدعم السريع أخذه. يضيف أنه اضطر إلى الخروج من الجزيرة من أجل علاج والده بعدما نفد الدواء في الجزيرة. وبعد فترة وجيزة، توفي خلال رحلة النزوح بولاية الجزيرة.
مدينة أشباح
من جهتها، تقول حنان لـ "العربي الجديد" إن الجزيرة التي كانت تضج بالحياة تتحول في ساعات الليل إلى مدينة أشباح يملأ الخوف أي ركن فيها في ظل سرقة المنازل والمحال التجارية والاعتداء على الشباب بالسياط ونهب الهواتف وإرغام الناس على تحويل أموالهم من التطبيقات المصرفية. ووصل بهم الحال إلى التضييق على المطابخ الجماعية التي يعتمد عليها الكثيرون لتأمين وجباتهم، ويمكن أن يداهموا المنازل في منتصف الليل، واعتقال الرجال يومين حتى يفرغوا المنازل من أية محتويات. وتبين أنها خرجت من الجزيرة بداية في أغسطس/ آب الماضي، ثم عادت على أمل تحسن الأوضاع فوجدت أنها زادت سوءاً. غادرت مرة أخرى لينتهي بها المطاف داخل مركز الإيواء. أما الطفل براء، فيقول إنه يعاني وغيره من أطفال توتي جراء انتهاكات الدعم السريع، مبيناً في حديثه لـ "العربي الجديد" أنه كان يشعر بالرعب طوال الوقت، ويحتمل أن توقفك القوات وتتهمك بأنك تمد الجيش بالمعلومات. لذلك، شعرنا بالراحة بعد خروجنا من الجزيرة".
ويخشى التلاميذ في توتي، حالهم حال سائر أطفال السودان، ضياع مستقبلهم التعليمي. وتقول مزن، وهي تلميذة في المرحلة الثانوية، إنها توقفت تماماً عن الدراسة لأكثر من عام ولا تدري شيئاً عن مستقبلها في ظل حياة النزوح. وتقول لـ "العربي الجديد" إنها قرّرت التسجيل في إحدى المدارس، لكنها وجدت أن الرسوم مرتفعة فتخلت عن الفكرة، وناشدت الجميع بوقف الحرب حتى لا يضيع مستقبلها بالكامل وبات في حكم المجهول.
وكانت منظمات حقوقية قد أدانت الحصار المفروض على المدنيين بجزيرة توتي، وعدّته أحد الانتهاكات الخطيرة المحرمة بموجب القانون الدولي الإنساني. وحملت قوات الدعم السريع كامل المسؤولية عن الوضع الإنساني الكارثي الذي يعيشه مواطنو جزيرة توتي. ودعت المجتمع الدولي إلى الوقوف حول هذه الانتهاكات والتي تخالف القانون الدولي الإنساني والنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وأن تدفع باتجاه تقديم المساعدة الإنسانية عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر بالسودان.