قتل الاحتلال الإسرائيلي معلمة الموسيقى الثمانينية إلهام فرح، والتي قررت البقاء في غزة رغم نزوح العديد من المسيحيين إلى الضفة الغربية بسبب الاعتداءات المتكررة، وصعوبة التنقل، وتقييد حريتهم الدينية من قبل الاحتلال، وخصوصاً خلال أعياد الميلاد.
تنتمي فرح إلى عائلة غزية الأصل من بين العائلات المسيحية المتمسكة بالبقاء في غزة، وهي الابنة الصغرى للشاعر الفلسطيني حنا دحداح فرح. وحزن الكثير من الغزيين على استشهاد فرح، وخصوصاً تلاميذها، إذ كانت أول معلمة غزية معتمدة في نظام التعليم الفلسطيني، وكان جيرانها من سكان مدينة غزة يطلقون عليها لقب "السيدة أم البرتقالي المبتسمة دائماً".
كانت فرح مفعمة بالحياة. تضع دائماً قبعة على رأسها، وتحمل حقائب تتميز بالتطريز الفلسطيني. كانت تعزف على كثير من الآلات الموسيقية، لكنها تفضل العزف على الأورغ والكمان والأكورديون.
تصف ابنة شقيق فرح، رند ماركوبولوس، عمتها بأنها "الصديقة والأم ومعلمة الموسيقى ومعلمة الحياة". تعيش رند خارج قطاع غزة منذ سنوات، لكنها كانت على تواصل دائم مع عمتها التي كانت تعيش في شقة بعمارة المهندسين في حيّ الرمال بالقرب من ملعب فلسطين.
تقول رند لـ "العربي الجديد": "كانت متقاعدة بسبب كبر سنها، لكنها ظلت مفعمة بالحياة. عندما كانت معلمة، اعتادت عزف الموسيقى لطلابها كل صباح، وتلحين قصائد والدها. نجت مرات عدة من الاعتداءات الإسرائيلية السابقة على القطاع، ووصفت الحرب الحالية بأنها أسوأ ما مرت به على الإطلاق. على مدار شهر، احتمت من القصف في إحدى الكنيستين اللتين كانتا تستقبلان النازحين في غزة مع المئات، لكنها في يومها الأخير غادرت الكنيسة من أجل استنشاق الهواء وإحضار ملابس، والتأكد من سلامة المنزل. اعتادت قول إن الرب يحميها".
في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني، توجهت فرح إلى منزلها سيراً على الأقدام. ولدى وصولها، كان قناص إسرائيلي على السطح، فأطلق النار على ساقها. حاول الجيران إسعافها، لكن القناص الإسرائيلي أطلق النار عليهم، ولم تفلح محاولات إسعافها على الرغم من التواصل مع الصليب الأحمر.
تضيف رند: "فقدنا روحاً جميلة. ولدت في غزة وسترقد فيها إلى الأبد. لن ننسى أبداً صوت عزفها على آلة الأكورديون. كانت تعزف عليها بكل حب. كانت محبة لغزة، وكثيرة العطاء لكل الناس، واعتادت العزف في الكنيسة خلال المناسبات الدينية، واعتنت بنفسها في شقتها الصغيرة حتى آخر أيامها".
كانت الشهيدة فرح تعيش في حيّ الرمال بين صديقاتها وأقاربها، وتعمل في حيّ تل الهوا، حيث كانت مدرسة الموسيقى الوحيدة في القطاع، وعلى مقربة من المدرسة، يقع مبنى جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني. في المدرسة كانت تقام العروض الموسيقية، وكانت فرح حريصة على حضورها، والعزف مع الفرق، وفي جمعية الشبان المسيحيين في حيّ الرمال.
ويعرب أسامة العشي (29 سنة)، وهو أحد جيران فرح، عن حزنه الشديد لفراقها، ويؤكد أنه لن ينسى ابتسامتها الدائمة. يقول لـ "العربي الجديد": "كانت تشارك الناس مناسباتهم، وتعزف في عيدي الفطر والأضحى، وفي شهر رمضان، وتحرص على إدخال الفرحة إلى قلوب الأطفال من خلال عزف الأناشيد أو الأغنيات الخاصة بشهر الصوم. كانت تعزف يومياً ما بين الساعة الثامنة والعاشرة مساءً. لم نكن نعترض على الأمر لأنه كان يشعرها بالسعادة، وكانت موسيقاها لطيفة، كما عرفت بكونها مربية في مدرسة دير اللاتين في منطقة غزة القديمة، وقد نجت سابقاً من استهداف كنيسة القديس برفيريوس من قبل الاحتلال".
عزفت تلميذتها يارا مُسلّم (32 سنة) على آلتي الكمان والبيانو مع الكثير من الفرق الموسيقية، وشاركت في المناسبات الوطنية، وهي تنسب الفضل في ذلك إلى فرح التي علمتها العزف. وعلى الرغم من بعض القيود على مشاركة الفتيات في الفرق الموسيقية، إلا أنها مستمرة في العزف في المنزل وفي المدرسة التي تعمل فيها.
كانت مُسلَّم تدرس في مدرسة دير اللاتين في المرحلة الابتدائية والإعدادية، وعزفت الكمان مع فرقة موسيقية في مصر، وفي العاصمة الأردنية عمان، وقابلت معلمتها فرح قبل ثلاث سنوات، وفوجئت بأنها ما زالت تتذكرها. قالت لها يومها: "أحفظ الوجوه حتى لو كبرت في السن".
تقول مُسلّم لـ "العربي الجديد": "هي في ذاكرتي أجمل المعلمات وألطفهنّ. كلما عزفت في مكان، أتذكر كيف كانت تنظر إليّ بحب. كانت تقول لي: اعزفي بحب فأنت قوية. فقد كنت خجولة في صغري. قتل الاحتلال الإسرائيلي معلمتي الجميلة. ربما أصبح الكثير من تلاميذها خارج قطاع غزة، لكن حبها يجمعنا".