تصطدم الرغبات الإنسانية لعائلات عراقية في تبني أطفال بالرادع الديني والصعوبات القانونية، في حين لا تتوفر مراكز إيواء لأيتام كثيرين، ما يعرّضهم لاحتمال مواجهة مستقبل مرعب، والتحوّل إلى ضحايا عمليات اتّجار بالبشر ومخدرات.
خلّفت الصراعات الأمنية التي شهدها العراق طوال ثلاثة عقود عدداً كبيراً من الأيتام والأطفال مجهولي الهوية، كما أثّرت على الصحة الإنجابية لأشخاص كثيرين، فأصبح العقم مشكلة واسعة الانتشار جعلت أسراً كثيرة تفكر في تبني أطفال.
حاول قصي علي، البالغ 40 عاماً، على امتداد 3 سنوات تبني طفل من دار أيتام بعدما أكد الأطباء عجزه عن الإنجاب، وفشلوا في علاجه بوسائل مختلفة بينها إجراء عمليات عدة بتكاليف باهظة، لكن محاولته تعثرت بسبب عراقيل قانونية كثيرة منعت إفادته، بحسب قوله، من حلّ التبني الوحيد المتوفر له لبث الحياة في منزله.
يقول لـ"العربي الجديد": "احتجت إلى نحو عام لإقناع زوجتي بأن تقبل فكرة التبني بعدما رفضتها قطعياً في مرحلة أولى. وعندما وافقت زوجتي باشرنا تنفيذ الإجراءات القانونية من دون أن نستطيع تجاوزها بأية طريقة حتى اليوم، ما أنهكنا وجعلنا لا نفقد الأمل بالحصول على طفل".
ويعلّق الخبير القانوني ناجي الكناني بالقول لـ"العربي الجديد": "لا يعرف عراقيون كثيرون أن القانون لا يتضمن نصاً يسمح بتبني زوجين لا ينجبان طفلاً، بل بضم طفل يتيم كريم النسب من دور أيتام بعد تقديم طلب رسمي إلى محكمة مختصة في المحافظة، شرط أن يكون الزوجان عراقيين، ويملكان سيرة حسنة، ويُعرفان بسلوكهما الجيد والعاقل، وأن يستطيعا إعالة الصغير وتربيته. وتحدد المحكمة الكفيل بعد إخضاع الطلبات المقدمة لمعايير مفاضلة، والتأكد من أن التبني يراعي مصلحة الطفل اليتيم تماماً، ويتناسب مع احتياجاته المعيشية والاجتماعية لتحقيق الهدف المنشود في نقله إلى حياة مثالية توفر له كل مقومات النجاح والتقدم. واللافت أن عدد مقدمي طلبات التبني يفوق عدد الأطفال الأيتام كريمي النسب في دور الأيتام ببغداد". يضيف: "بالنسبة إلى الطفل اليتيم معروف النسب يحرّم القانون العراقي تبنّيه وفقاً للشريعة الإسلامية، ويفرض رعايته وإعالته وتربيته من دون إلحاقه بنسب كفيل".
ويطالب الكناني بإعادة النظر في القانون لمنح أكبر عدد من العائلات العراقية فرصة تبنّي أطفال كانوا ضحية عقود دامية مرّت بها البلاد، كما يدعو إلى توسيع دائرة التبني لتشمل جميع الراغبين، وليس الأشخاص الذين يعانون عدم الإنجاب.
بدوره يعزو رشيد الحسيني، وهو رجل دين في النجف، تحريم الفقه التبني بوضوح وصراحة إلى أسباب تتعلق بالطفل المتبنّى بعد بلوغه سن الرشد. ويقول: "تصطدم مشكلة التبني بعدم إمكان الأم تقبيل الطفل الذكر أو نزع الحجاب أمامه حين يبلغ سن الرشد، أما إذا كان الطفل المتبنى أنثى فلا يحق لوالدها بالتبني أن يرعاها، ويتعامل معها كما لو كانت ابنته الحقيقية".
يضيف: "يطرح التبني إشكالات شرعية كبيرة يتطلب تجاوزها رضاعة الطفل المتبنى من أقارب الزوج إذا كان أنثى، ومن أقارب الزوجة إذا كان ذكراً، حتى يحل الطفل عليهما شرعاً".
ولا تزال ثقافة التبني في العراق تواجه صعوبات اجتماعية عدة على صعيد رغبة المحيط العائلي للزوجين في هذا الأمر، أو توفر الرغبة لدى الزوج بخلاف الزوجة، أو العكس، في وقت يتجاوز عدد الأيتام في العراق 5 ملايين، بحسب آخر إحصاء أجرته المفوضية العليا لحقوق الإنسان في البلد الذي يبلغ معدل الفقر فيه أكثر من 50 في المائة في بعض المناطق. ومنذ عام 2003 زادت ظاهرة الأطفال المشردين والأيتام في العراق، ثم أعلنت وزارة حقوق الإنسان أن العراق يضم النسبة الأكبر من الأيتام في العالم العربي.
لكن هذه الصعوبات لا تمنع رغبة كثيرين في المضي قدماً بمشروع التبني، وتجاوز كل العقبات. وتقول أم قاسم التي نجحت في تبني طفل ومواجهة الظروف المحيطة التي أثّرت عليها في السنوات الأولى للتبني، لـ"العربي الجديد": "وجدت طفلاً عمره ساعات قليلة قرب مكبّ للنفايات في موقع عملي بمستشفى في العاصمة بغداد فأخذته، وأردت في بادئ الأمر أن أسلمه إلى إدارة المستشفى، ثم فكرت في تبنيه، وناقشت الموضوع مع زوجي الذي شجعني جداً، لكن أهلي جعلوني أتردد قبل أن أحسم أمري بعد أربعة أيام من الصراع بين تنفيذ رغبتي في تبنيه، ورفض المجتمع المحيط بي هذا الأمر".
تضيف: "أردت تسجيل الطفل بحسب الأصول والقانون، لكنني اصطدمت بشروط قانونية دفعتني إلى التلاعب بالأوراق الرسمية، وتقديم الطفل باعتباره ابني الشرعي بعد دفع رشوة لعامل في دائرة النفوس كي أستطيع تسجيله باسمي واسم زوجي ليكون جزءاً من الأسرة، ويملك أوراقاً قانونية ". تتابع: "أظن أن تبني هذا الطفل كانت أهم خطوة في حياتي، وأشكر الله دائماً على هذه النعمة، وأشعر بأنني حققت إنجازاً كبيراً في حياتي".
يشار إلى أنّ أهمية تبنّي أشخاص أولاد أيتام هو عمل إنساني بالدرجة الأولى يسمح بأن ينمو الطفل اليتيم في حضن عائلة، لكن هذا الموضوع لا يرتبط برغبة الزوجَين فقط، بل بعوامل دينية وقانونية أخرى. ويعتبر وقت حصول التبني إحدى المسائل الكثيرة التي تُطرح على صعيد التربية، إلى جانب ضرورة إطلاع الولد بأنه متبنى وأمور غيرها أخرى يجهلها الطفل. وقد ترغب عائلة في تبني طفل رغم أن لديها أولاداً. ومهما كانت الحال، يمنح التبني عائلة لأولاد فقدوا عائلتهم لسبب ما، كما يوفر شعور الأمومة والأبوّة لمن لم يشعروا بذلك.