فيض من الإحساس بالقهر يُخيّم على منزل الفلسطيني عامر الصبّاح من بلدة تقوع جنوب شرقي بيت لحم جنوب الضفة الغربية، بعد أن استشهد نجله الفتى مصطفى (15 عاماً)، يوم الجمعة الماضي، برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي، لتضاف إلى معاناته السابقة ففقده خمس بنات إثر مرض عضال، وابنه الكبير إثر مرض السرطان، وغياب ابن آخر له في سجون الاحتلال الإسرائيلي منذ عام ونصف دون محاكمة.
لدى والد الشهيد مصطفى ابن صغير اسمه رأفت بعمر السبعة أشهر، يعاني من الإعاقة الحركية وضعف البصر، إذ كان بعد صلاة الجمعة الماضي، يرافقه وبناته الصغار نحو الطبيب، تاركا الشهيد مصطفى في المنزل.
يروي الوالد المكلوم لـ"العربي الجديد" اللحظات الأخيرة لابنه الشهيد مصطفى: "صلى معي الجمعة، وتركته في المنزل، وأخبرته أنني سأعود، وأن يبقى إلى حين عودتي، وليتني لم أتركه وحيدا، عند سماع مصطفى عن المواجهات مع جيش الاحتلال توجه مباشرةً إلى نقاط التماس".
"كنت في طريقي لمنزل جدّة مصطفى، بعد أن وعدّته لأن نذهب للأراضي البرّية لقضاء الوقت معا مع جدّته وأمه، وأنا في طريقي للمنزل لاصطحابه معنا جاء الخبر أن فتى مصاب وهو متواجد في مستوصف البلدة، أدركت أنا وأمه بأن المصاب هو مصطفى، وذهبنا مباشرة للمستوصف، وكان قد استشهد وفارق الحياة"، يروي الأب تفاصيل موجعة عن فقده لابنه.
عانى الشهيد مصطفى رغم صغر سنه من ملاحقة الاحتلال له حسب والده، فقد تعرض للاعتقال مدة شهر، قبل خمسة أشهر، كما تعرض أكثر من مرة قبل عدة أيام من التوقيف لساعات، وتهديده بالقتل من قبل جنود الاحتلال الذين يتمركزون بشكل دائم على مداخل بلدة تقوع.
ويتحدث والد مصطفى عن عناد مصطفى أمام جنود الاحتلال، حين اقتحم الجيش البلدة قبل ثلاثة أسابيع، قائلًا: "احتجزه الجنود قرب المنزل، وطالبته مجندة مسلحة بأن يركع على الأرض ويرفع يديه مستسلما، لكنه رفض الركوع، وأطلقت ثلاث رصاصات بجانبه لتخويفه، إلا أنه لم يخف، واقتادوه حينها لجهة مجهولة، تعرض خلالها للتنكيل والضرب، من ثم ألقوه على الأرض، وقال له ضابط الجيش ها أنت الآن تركع، وألقوه في أراضي خالية وتركوه".
لاحقًا اتصل بوالد مصطفى، ضابط في جيش الاحتلال، ادعى أنه المسؤول عن منطقة تقوع، مهددًا إياه بقتل نجله، إذ يوضح والد الشهيد لـ"العربي الجديد": "قال لي الضابط، ابنك يحتاج للتربية ويلقي علينا الحجارة، قلت له أنتم من يلاحق ابني، فكان ردّه، أنا سأقتل مصطفى، وقلت له لن تستطيع فالأعمار بيد الله، وإن كانت الشهادة نصيبه، فرحمة الله عليه".
أما حاتم الصباح أحد أقارب الشهيد، فيروي لـ"العربي الجديد" عن لحظات الشهيد الأخيرة، ويقول: "قبل بدء المواجهات بلحظات، اشترى من مصروفه الشخصي مشروبا غازيا لأصحابه وأبناء عمومته وضيّفهم، قائلًا لهم: (سأتزوج قريبا)، ولم يكن أحد يعلم حينها ما كان يعنيه الشهيد".
كان الشهيد مصطفى طموحاً، يفكر في بناء منزل كيّ يتزوج في العشرين من عمره حسب رغبة والديه، ويقول حاتم الصباح عن الشهيد، "كان طموحاً وهو ابن الصف التاسع الابتدائي، وكان ينوي الدراسة والتخرج من المرحلة الثانوية، التي حرم منها شقيقه يزن في الأسر، إلا أن أحلام وطموح الشهيد الفتى قتلت بعد أن أصابته رصاصة الدمدم في صدره وفجرت رئته وارتقى على إثرها شهيدًا".
غاب مصطفى وبقي سؤاله عن طموحه لوالديه قبل استشهاده بليلة "متى سأتزوج، وتبني لي يا أبي منزلًا؟". فيجيب والده عنه قائلًا: "اليوم تزوج ابني في تشييعه قبل الجميع، وصار له عرس كبير، وزفّة مصطفى لو كان حيًا ما حصلت له هكذا، هو اليوم عريس في الجنة".
بعد اعتقال الاحتلال الإسرائيلي لشقيق الشهيد مصطفى، كانت أسرته تعتمد عليه في قضاء حاجات المنزل، وفق والده، قائلًا: "فقدت ابني محمد بمرض السرطان وكان متفوقًا في دراسته، فقدت بعدها خمس بنات بمرض الإعاقة، غاب عني ابني يزن في الاعتقال ويفترض أن يكون الآن في الثانوية العامة، وها أنا الآن أفقد مصطفى برصاص الاحتلال، والحمد لله على كل حال".
وكانت قوات الاحتلال قد اعتقلت يزن شقيق الشهيد مصطفى في السادس عشر من أكتوبر/تشرين الأول 2021، وحرم على إثر ذلك من إكمال دراسته في المرحلة الثانوية التي كانت مقررة العام الجاري، وكما حرم الاحتلال شقيق الشهيد من إكمال دراسته ولو مؤقتًا، فقد غيّب الشهيد مصطفى عن مقاعد الدراسة كليًا.
ووصل عدد الشهداء الفلسطينيين إلى 107، منهم 20 شهيدا تقل أعمارهم عن 18 عاماً، اثنين منهم من بلدة تقوع، آخرهم الشهيد مصطفى الصباح، ومن قبله الشهيد الطفل ريان ياسر سليمان (7 أعوام) الذي استشهد في التاسع والعشرين من سبتمبر/أيلول العام المنصرم، بعد سقوطه من علو أثناء مطاردته من قبل جنود الاحتلال.
ويحاول الاحتلال السيطرة على أكبر قدر ممكن من أراضي بلدة تقوع، حيث يواصل المستوطنون شق طرق استيطانية في منطقة برية تقوع؛ من أجل إقامة بؤرة استيطانية جديدة، إذ أن مساحة الأراضي التي يحاول الاحتلال الاستيلاء عليها تبلغ أكثر من 400 دونم في البلدة.