بعد وقوع الزلزال، تنقل الخمسيني السوري "علي" بين ثلاث ولايات في جنوبي تركيا، لكنه كان دائماً يعود للاطمئنان على منزله في مدينة غازي عنتاب، التي تأثرت بشدة بالزلزال الذي ضرب ولاية كهرمان ماراش، وأثر بشكل مدمر على الشمال السوري، منتظراً تقييم الجهات المختصة الأضرار التي لحقت بالبناء الذي يضم شقته.
لا يستطيع علي النوم في خيمة بسبب البرد، كما أن لديه القدرة المادية للمبيت في فندق كما فعل حين قصد ولاية ماردين، التي لم تتضرر من الزلزال، غير أنه لم ينم في تلك الليلة، إذ تلاحقه "فوبيا" النوم تحت سقف، أو البقاء في بناء متعدد الطوابق، منذ شاهد كيف تحولت أبنية كاملة إلى ركام من جراء الزلزال الكارثي الذي خلف آلاف الضحايا، وغالبيتهم ماتوا وهم نيام. عاد إلى غازي عنتاب مستسلماً للواقع، بعد أن طمأنته السلطات أن وضع البناء ليس خطيراً.
يلاحق الخوف ياسمين الأحمد، النازحة من ريف حماة الشمالي، وتخبر "العربي الجديد" أنه رغم كون بيتها في مدينة الدانا سليم، إلا أنها ترفض العودة إليه، حتى بعد اليوم العاشر على الكارثة، تقول: "البيت كله تحرك. لوهلة ظننت أنّ السقف سيطبق علي أنا وأطفالي وزوجي. عشنا ذلك الخوف جميعاً، والصوت كان مرعباً للغاية. قطع الخوف قلبي، وما زلت أعاني لحظات من الرعب بسبب ما عايشته عند وقوع الزلزال".
أما الطفلة فاطمة العمر (9 سنوات)، التي تقيم مع أهلها في مدينة إدلب، فقالت لـ"العربي الجديد": "لما وقع الزلزال، أيقظني أبي، ثم أيقظ أخي، وحمل أختي الصغيرة النائمة، واتجه إلى باب البيت، فلحقنا به جميعاً مع أمي. لم أعرف ما الذي يحدث. لاحقاً، رجعنا إلى البيت، ونمنا، وفي الصباح أخبرني أبي ما حدث. حينها حدثت هزة ثانية، فبكيت كثيراً، وطلبت من أبي أن نغادر المنزل، فأخرجنا إلى مكان قريب من البيت. حتى اليوم، أخاف أن أنظر إلى المصباح المتدلي من سقف البيت، فكلما نظرت إليه أشعر أنه يهتز، وأشعر بألم في بطني".
الخوف والقلق والتوتر بين أبرز المشكلات التي تواجه متضرري الزلزال
تقيم ميساء في هاتاي، جنوبي تركيا، وتقول لـ"العربي الجديد": "عشنا أوقاتاً عصيبة تشبه الكابوس. عندما غادرنا البناء، كان الكل يصرخ، والأطفال يبكون. أبنائي الثلاثة ما زالوا يطلبون أن نذهب إلى الحديقة عندما يستيقظون في الصباح، رغم انقضاء 11 يوما على الكارثة، وعند مغادرة والدهم المنزل لأي سبب، يبكون، فأحاول إقناعهم بأنه لم يعد هناك خطر. لا أعلم متى تزول هذه الحالة، ابني البالغ 6 سنوات يشعر برجفة دائمة في قدميه، وبعد وقوع الزلزال، أصبح يخاف من نزول الدرج، أو إغلاق باب الحمام خلفه، أما ابنتي الكبيرة، فتستيقظ في الليل على كوابيس بشكل يومي، فما عشناه كابوس بكل ما للكلمة من معنى".
نزح عبد الله (40 سنة) من ريف إدلب الجنوبي، وهو يقيم في مدينة الريحانية، جنوبي تركيا، ويوضح لـ"العربي الجديد"، أنه منذ وقوع الزلزال ينام في السيارة قريباً من المنزل، مضيفا: "عندما أدخل المنزل أشعر بضيق في صدري، وأحسّ أنه سينهار، فأغادر فوراً إلى السيارة. أولادي وزوجتي ينامون في المنزل منذ اليوم الخامس للكارثة، أما أنا فلا. رأيت مناظر مرعبة، وأقاربي كانوا تحت الأنقاض في أنطاكيا، وهذا يخيفني ويمنعني من النوم في البيت".
استنفرت المنظمات والجمعيات المعنية بالصحة النفسية جميع كوادرها
في استجابة طارئة للزلزال، استنفرت العديد من المنظمات والجمعيات المعنية بالصحة النفسية كوادرها، إما للعمل في الميدان، أو عبر فتح خطوط الاتصال الساخنة، في محاولة لعلاج ما يمكن من المشكلات النفسية. يقول المشرف الميداني في منظمة "إحياء الأمل" المختصة بالصحة النفسية، مالك حبوب، إن لديهم الكثير من الفرق الميدانية وغير الميدانية التي عملت خلال سنوات الحرب على تخفيف الآثار النفسية، لا سيما من خلال برامج حماية الطفل والمرأة، مشيراً إلى أن هذه الفرق، وفرق أخرى تابعة لمنظمات مماثلة، تعمل بأشكال مختلفة على الاستجابة الطارئة بعد الزلزال بين أرياف حلب وإدلب، وبعضها فعّل خطوطاً للاتصال الهاتفي لعدم قدرته على الوصول إلى الداخل السوري، وتتلقى تلك الخطوط يومياً الكثير من الاتصالات.
يضيف: "أقدم الخدمة ضمن أحد الخطوط الساخنة، وأتابع الوضع في الميدان، ونعمل على تطوير خريطة لتقديم الخدمات، والتي تشمل العون النفسي الأولي، وبالتالي نحتاج إلى التنسيق مع بعض الجمعيات والفرق الإغاثية أو الطبية على الأرض، والعمل قائم على شقين، الأول يستهدف المجموعات من خلال محاضرات وندوات للتوعية، والثاني فردي عن طريق عيادات الصحة النفسية المنتشرة في الداخل السوري، سواء لجمعيتنا أو الجمعيات أو المنظمات الأخرى العاملة في ذات المجال. الخوف والقلق والتوتر هي أبرز الحالات التي تواجه أغلب المتضررين من الزلزال، وتُضاف إليها حالة عدم الاستقرار بعد فقدان كثير من المتضررين منازلهم، أو خروجهم منها خوفاً من انهيارها خلال الهزات الارتدادية، والأطفال أكثر تأثراً بالطبع".
ويؤكد حبوب أن "الاستشارات المقدمة حالياً تعمل في المقام الأول على تجاوز المشاكل التي تسبب اضطرابات سلوكية عند الأطفال، ومن بين الحالات التي تعاملنا معها، أب وثلاثة من أطفاله الذين كانوا يعانون من الاضطرابات السلوكية بعد الكارثة. الكبار يعبرون عن الصدمة بالكلام، أما الصغار فينعكس ذلك على سلوكياتهم، سواء من خلال الكوابيس، أو البكاء، أو التشنج".
ويقول الطبيب النفسي عمار بيطار، لـ"العربي الجديد"، إنه "بعد انتهاء الصدمة في حالة كالزلزال، يلجأ الناس إلى تحليل ما حدث، وأكثر من يجدون صعوبة في عملية التحليل هم الأطفال لقلة الإدراك أو الخبرة. تقديم الإسعاف النفسي الأولي هو المرحلة الأهم، ونساعد الناس على تقبل ما حدث، وفهم المشاعر المرافقة له كالصدمة أو الخوف عبر زيادة الوعي بأن الخوف أمر طبيعي، وليس مرضاً".
ويشير بيطار إلى أن فرق جمعية "إحياء الأمل" تواصل عمليات الإسعاف النفسي الأولي، وأنهم يركزون على المرضى السابقين، لا سيما الذين يعانون من حالات مثل "ثنائي القطب" أو "الوسواس القهري" أو "الهلع والاضطراب"، فهؤلاء تلزمهم رعاية خاصة، لا سيما أن الصدمة الحالية فاقمت أوضاعهم. ويوضح أن "بعض الناس تطور لديهم بعد الصدمة اضطراب الكرب الحاد، الذي يؤثر على سلوك الأشخاص في نومهم أو أكلهم، أو طرق تعاملهم مع الآخرين، وقد يتطور إلى الدخول في مرحلة (الحداد)، التي تتضمن عدة مراحل، تبدأ بالإنكار، ثم الغضب، فالاكتئاب، وبعدها التقبل".
يتابع: "في مرحلة الغضب، يجب التعامل مع المصاب بطريقة صحيحة كي لا يؤذي نفسه، فعلى سبيل المثال، بعض من لا تزال عائلاتهم تحت الأنقاض يرفضون مغادرة البناء، رغم المخاطر المترتبة على البقاء، ونحن حالياً بصدد تطوير آليات لتوسيع إدراك الأطفال ما حدث، وتجهيز آليات لتقديم الدعم النفسي لهم ولذويهم".
ويقول الخبير النفسي علي النمر، في حديث مع "العربي الجديد": "التداعيات النفسية على المتضررين من الزلزال تحتاج إلى وقت لتداركها، وأبرز المشاكل النفسية حالياً هي الخوف من النوم تحت سقف، أو من الظلام، أو الأماكن الضيقة، بالإضافة إلى الأصوات التي تشبه أصوات هزات الزلزال. تفهم المخاوف جزء رئيسي في العلاج، وهي مبررة وطبيعية، ونقوم بتبديد المخاوف من خلال النصائح المناسبة لكل حالة، وفي المجتمعات الإسلامية، ينصح بالعمل على الجوانب الروحية والإيمانية، كتعزيز مسألة القضاء والقدر، وأن الإنسان لا يموت إلا إذا انتهى أجله، لكن في بعض الحالات التي تحرم صاحبها النوم أو تؤثر على سلوكه، يجب تقديم دواء تحت إشراف الطبيب".
يضيف النمر: "الصدمات الناتجة عن كارثة بحاجة لمتابعة أخصائيين نفسيين، وعلى المجتمع أيضاً جانب من المسؤولية، ومنها أن يساهم المقربون في إبعاد المصاب عما يتعلق بالصدمة، واستخدام آليات إلهائه بنشاطات أخرى حتى لا يعود إلى الذكريات المتعلقة بالصدمة. الشعور بالفقد من أكثر المشاعر خطراً، لا سيما عند الأطفال، ويجب تدخل المجتمع في ذلك، فالطفل الذي يفقد والده أو والدته أو كليهما، لم يفقد فقط شخصاً عزيزاً عليه، بل فقد كذلك الخدمة التي كان يقدمها هذا الشخص له، من رعاية وتأمين طعام وشراب ومسكن ومشاعر حب وحنان، وعلى المجتمع تعويض ما يمكن مما فقده الطفل من هذه الحاجات الضرورية، ويجب ألا يشعر بأنه بلا أسرة، أو يفتقر إلى الرعاية، أو أن مستقبله غامض".