المغاربة يستعدون لرمضان بإحياء عادات أصيلة ومبادرات خيرية
"إنه ضيف عزيز يستحقّ أن نستعدّ له، لارتباطه بالصيام والقيام وفعل الخير والعتق من النار". بهذه الكلمات وصفت الخمسينية رحمة الجاري استعدادها لشهر رمضان، الذي يُوليه المغاربة عناية خاصة ويستقبلونه بشوق وفرح مترافق مع مجموعة من العادات والتقاليد المتوارثة عبر الأجيال، والتي تُجسّد في صنوفها جانباً أساسياً من الهوية الدينية والتاريخية والحضارية.
تقول لـ"العربي الجديد": "نشأت في بيت يُعظّم كل أفراده شعيرة الصيام، فقد كان أبي يؤمّ صلاة التراويح، وأمّي تشجّعنا على إضفاء أجواء البهجة والفرح على بيتنا من خلال المشاركة في تنظيفه وتجديد صالة الضيوف". وتضيف: "كنا نُخصّص ركناً للصلاة وقراءة القرآن، ونتنافس فيما بيننا على عدد الختمات، وقد حملت معي كل هذه العادات وما زلت أعمل بها وأحرص على غرسها في نفوس أولادي وأحفادي".
الاستعداد لـ"سيدنا رمضان"
لا يقتصر الاستعداد لـ"سيدنا رمضان" كما يسميه العامة تعظيماً وإجلالاً له على تنظيف المنازل وتعطيرها وتزيينها، فهذه تكاد تكون سمة مشتركة بين جلّ المغربيات، بل يتعداه إلى اقتناء كل الحاجيات والمستلزمات الضرورية من مواد غذائية وغيرها، إذ تزدحم الأسواق ويرتادها المتسوقون بصورة مكثفة.
من أمام محل عطارة في أحد الأسواق الشعبية بمدينة الدار البيضاء، تقف ثلاثينية وهي تُقلّب بين يديها حبات اللوز والسمسم، وتتفاوض مع البائع حول السعر. تقول إنها تسابق الزمن لاقتناء كل ما تحتاجه من المواد الغذائية والتوابل والقطاني، التي يكثر استهلاكها في هذا الشهر مثل التمر والحمص والعدس والزيت، بالإضافة إلى بعض لوازم المطبخ مثل الأواني الجديدة لإضفاء لمسة فرح على طاولة الطعام.
وتشتهر المائدة الرمضانية في المغرب بأطباق شتى وأطعمة متعددة، من أشهرها الشباكية وسلو والبريوات والحريرة، وتمتاز بجمعها بين مذاقات الحلو والمالح ما يمنح توازناً يلبي حاجيات الصائمين.
وتضيف: "دأبت على إعداد حلوى الشباكية، المكونة من الدقيق واللوز المطحون واليانسون والقرفة والسمسم المطحون والزيت والزبدة وماء الزهر، والمغمورة في العسل، ما يمنحها مذاقاً متميزاً وفريداً"، وتشير إلى أنها تقدمها مع شوربة الحريرة الساخنة وحبات التمر.
أما "سلو" أو "السفوف" أو "التقاوت" فلا يقل أهمية عن الشباكية. وتوضح زينب العمري أنها ورثت عن والدتها فاسية الأصل طريقة تحضيره، حيث تقوم بتحميص الطحين والسمسم واليانسون اللوز، ثم إضافة المسكة الحرة والزيت والزبدة، التي تطحن جميعا لتعطي طبقا لذيذا تناقلته الأجيال جيلاً بعد آخر.
وتروي ما تناقلته الألسن عن الأجواء المصاحبة للاستعداد لرمضان في فاس، خاصة ما يتعلق باجتماع الفاسيات فوق سطوح المنازل وكلهن شوق لمراقبة هلال الشهر، مشيرة إلى أنهن كن يعرفن ذلك بدوي صوت المدافع و"الزواكة" التي كانت ضمن الطقوس المتوارثة منذ عقود.
وتشير إلى تبادل التهاني والتبريكات، بعبارة "مبروك العواشر"، و"رمضان كريم"، متمنين لبعضهم الصحة والعافية والقدرة على الصوم للفوز بالأجر والمغفرة.
لمّة عائلية
يتيح شهر رمضان فرصة كبيرة للقاء العائلات والأصدقاء وصلة الرحم، وتبادل الزيارات ودعوات الإفطار، وتحضر الملابس التقليدية بكامل بهائها ورونقها، سواء الرجالية أو النسائية، وعلى رأسها الجلباب والقفطان.
وتشهد محلات بيع وخياطة الألبسة التقليدية رواجاً وحركية بارزة، سواء بالنسبة للراغبين في اقتناء الملابس الجاهزة، أو ممن يفضلون موديلات بعينها تساير صيحات الموضة.
نوال أصبان، خيّاطة ملابس تقليدية، تقول لـ"العربي الجديد" إن الجلابة النسائية تبقى الزيّ الأكثر طلباً مع اقتراب شهر رمضان، باعتبارها رمزاً مغربياً للأناقة والأصالة، وتوفرها بمختلف المقاسات والألوان ولما تمتاز به من زخارف وتطريزات يدوية تجمع بين الطابع المغربي واللمسات العصرية.
وتشير إلى أنها تلقت عدة طلبيات من زبوناتها، تخص الجلابة التقليدية النسائية بقفطانها المرصع، بالإضافة إلى الكيمونو العصري المطرز والمنبت بالعقيق، وهي قطع تميز المرأة المغربية، سواء داخل بيتها أو لدى تلبيتها دعوات الضيافة.
بدوره، يوضح مصطفى الدغمي، صاحب محل ملابس تقليدية، لـ"العربي الجديد"، أن "الحركة التجارية تنشط خلال شهر شعبان، ويكثر الطلب على الجلابة الرجالية الخفيفة من ثوب المليفة وغيره، بالإضافة إلى "الفوقية" و"الجابادور"، إلى جانب "البلغة"، النعل الشعبي المعروف".
ويضيف: "يمثل رمضان شهراً لرسم لوحة روحانية ساحرة تسلب الألباب يزينها المصلون الذين يعمرون المساجد بلباسهم التقليدي بشكله الجميل ودقة صنعه وأناقة مظهره".
مساجد ومبادرات
تشمل الاستعدادات لشهر رمضان تنظيف المساجد والزوايا، وتجديد كل مرافقها من إنارة وصوت وأماكن الوضوء، حتى تكون بيوت الله في حلة بهية وجاهزة لاستقبال أفواج المصلين، وحلقات الذكر ومجالس العلم التي تعقد في شهر الصوم.
ونشطت سابقاً حملات تنظيف المساجد في عدد من مدن المغرب، إلى جانب استبدال المصابيح وشراء مكبرات الصوت، قادها شباب متطوعون ونشطاء جمعيون، وشاركوها على منصات التواصل الاجتماعي، بهدف التشجيع على استمراريتها، مشيرين إلى أنها سنة تستحق الإحياء، ولا ضير أن تتم بالتنسيق مع الوزارة الوصية والقيمين على المساجد.
ومن مظاهر الاستعداد لشهر رمضان أيضا، تبقى المبادرات الخيرية متعددة الأشكال، من هيئات وجمعيات رسمية وغير رسمية، مثل الإعداد لموائد الرحمن، وحملات مساعدة الأسر المحتاجة، ومختلف صنوف البر والإحسان.
وفي هذا السياق، أطلقت الجمعية المغربية "حسنات" مبادرة لجمع "قفة رمضان" التي تتضمن المواد الغذائية اللازمة لمساعدة المحتاجين. ويقول المصطفى قبلي، رئيس الجمعية، إن الهدف من هذه المبادرة هو رسم البسمة على وجوه الفقراء وإدخال البهجة إلى قلوبهم، من خلال توزيع الحاجيات الضرورية التي يكثر عليها الطلب خلال شهر رمضان.
ويشير من خلال تدوينة له على "فيسبوك" إلى التفاعل الإيجابي من طرف أهل الخير والإحسان مع المبادرة، والاستمرار في جمع المواد الغذائية لفائدة العائلات المستفيدة قبل دخول شهر رمضان، داعيا إلى مزيد من تضافر الجهود.
أما محمد حمصي، طالب في الدراسات الإسلامية، فيقول إنه يشارك في عدة نشاطات خيرية فردية وجماعية مع اقتراب شهر رمضان "تعزيزاً للتكافل والإخاء بين المسلمين". ويضيف مستذكراً قول الأديب أحمد حسن الزيات صاحب الرسالة "ثلاثون عيداً من أعياد القلب والروح، تفيض أيامها بالسرور وتشرق لياليها بالنور".