عادت تجارة التحف الفنية والأثاث القديم في الجزائر إلى البروز خلال السنوات الأخيرة، وهي تشهد إقبالا كبيرا من قبل عشاق التاريخ والفنون. ويُقدم بعض رجال الأعمال والأغنياء على اقتناء تحف تعكس مراحل وحقبا تاريخية لتزيين المنازل أو المحال التجارية.
مهارز عثمانية، ساعات رومانية، مصابيح زيتية نحاسية من القرن الثامن عشر، فوانيس أثرية تعود لأكثر من 200 عام، آلات كتابة وطبع من الجيل القديم، أوان وطاولات نحاسية، لوحات زيتية وفنية قديمة، مسدسات وبنادق وسيوف قديمة، مجسمات لشخصيات تاريخية، قرميد زجاجي مطبوع، أجهزة اتصال تعود للحرب العالمية الثانية والفترة الاستعمارية، عملات نقدية، وغيرها من التحف النادرة التي تستقطب عشاقها في المحلات الموجودة في مدخل حديقة الآثار الرومانية في محافظة تيبازة. وتحكي كل واحدة منها مرحلة وحقبة من التاريخ الإنساني.
بدأ اسماعيل حديدي، وهو أحد التجار الناشطين في هذا المجال، نشاطه في بيع التحف القديمة في منطقة تيبازة، قرب العاصمة الجزائرية، قبل ثلاثة عقود، يقول لـ"العربي الجديد": "بدأت هذا العمل منذ أكثر من 30 عاما، وقد ورثته عن والدي الذي بدأ هذه التجارة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي عندما كانت المحافظة تشهد توافداً للسياح الأجانب والوفود الثقافية. كان والدي قد افتتح محلا صغيرا في إحدى الزوايا، وكان يقصده هؤلاء لاقتناء بعض التحف النادرة التي لا يجدونها في مناطق أخرى. وكانت هذه التجارة مزدهرة وخصوصاً في فصل الصيف. وشهدت هذه التجارة ركوداً خلال تسعينيات القرن الماضي مع الحرب الأهلية الجزائرية أو العشرية السوداء، واضطر الكثير من زملائي إلى تغيير نشاطهم لتعود للانتعاش من جديد خلال السنوات الأخيرة، بعدما أصبح المواطنون يهتمون بالتحف القديمة، وخصوصا رجال الأعمال وعشاق التراث المادي الذي يرمز إلى مراحل تاريخية مختلفة.
وتختلف الوسائل التي تصل بها التحف والقطع القديمة إلى هذه المتاجر من المناطق والمحافظات والدول، سواء عن طريق البيع المباشر أو التنقل لجلبها مباشرة من العائلات والأشخاص الذين يرغبون في بيع بعض التحف بسبب الحاجة للمال، وخصوصاً بعد إدراك قيمتها المالية في السوق. كما يعتمد المعنيون على شبكة علاقات وأشخاص مهتمهم الرئيسية البحث عن كل ما هو نادر ومفقود في محافظات الجزائر، وعرضها على أمثال إسماعيل، في وقت أضحى فيه الكثير من التجار يعتمدون على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع المتخصصة في بيع التحف القديمة كموقعي واد كنيس وسوق بلادي، وأصبح الباعة يتركون أرقام هواتفهم للاتصال بهم مباشرة، الأمر الذي سهل الأمر على التجار.
في هذا السياق، يؤكد فضيل منصور، وهو تاجر أثاث قديم بالموقع نفسه، أنه يذهب في الكثير من الأحيان إلى محافظات بعيدة لجلب الأثاث والتحف القديمة بعد إرسال بعض معارفه المتخصصين لمعاينتها والمفاوضة على سعرها، ويقول لـ"العربي الجديد": "أتفاوض مع العائلات التي تملك هذه التحف مباشرة من دون وسطاء وقد أصبحوا سماسرة يرفعون سر التحف بعدما لاحظوا التهافت عليها خلال السنوات الأخيرة من قبل رجال الأعمال. كما أتابع يومياً المستجدات المنشورة عبر بعض المواقع والصفحات المتخصصة في هذا المجال وأتصل بأصحابها وأتفاوض على السعر وأجلبها من مختلف المناطق مع الحرص على إعادة تنظيفها وتصليحها بمواد خاصة لتستعيد بريقها قبل عرضها على الجمهور".
وتمتلئ محلات الشوارع المشهورة في العاصمة، كساحة موريس أودان وشارع ديدوش مراد وأزقة الحي الصغير المعروف بواد كنيس ببلدية بلوزداد (ولاية الجزائر)، بالتحف والأواني والأثاث القديم والأغطية والزرابي التي تعود لأكثر من قرن من الزمن. وعلى الرغم من قدمها، ما زالت تحتفظ بقيمتها نظراً لندرتها من جهة وتعبيرها عن هوية منطقة أو حضارة مرت على الجزائر من جهة أخرى. ولا يمكن للوافدين إلى العاصمة من محافظات بعيدة، أو بعض السياح القادمين من الخارج، أن يغفلوا عن زيارة هذه المحلات واقتناء ولو تحفة واحدة كذكرى تخلد هذه الزيارة وتزيد من جمال زوايا المنزل عند تعليقها أو وضعها في مكاتبهم الخاصة.
إلى ذلك، يؤكد كريم أماعوش، وهو صاحب محل بزقاق واد كنيس، المعروف ببيع الأثاث القديم وسط العاصمة الجزائرية، لـ"العربي الجديد"، أن "الكثير من رجال الأعمال يقصدون المنطقة لاقتناء هذه التحف ووضعها في البيوت والصالونات سعياً لإبراز عراقة العائلة وتاريخها والذاكرة الوطنية وأصولهم الراقية داخل المجتمع"، مشيراً إلى أن "مصادر بعض التحف النادرة مختلفة. البعض يعرضها للبيع على مواقع التواصل الاجتماعي، فيما تحصل مزايدات على بعض القطع النادرة سراً بأسعار خيالية، إذ يتنافس عليها الأثرياء بطريقة عجيبة".
ويحرص بعض الجزائريين على اقتناء التحف القديمة. من بين هؤلاء رجل الأعمال خير الدين جبلي. الأخير يتنقل بين المحال التي تبيع التحف في العاصمة الجزائرية للبحث عن بعض التحف التي ستزين النادي والمقهى الذي سيفتتحه قريباً، في محاولة منه لإضفاء نكهة تاريخية على المكان تعود بزائره إلى حكايا ألف ليلة وليلة وتزيد المكان رونقا وجمالا، على الرغم من ارتفاع أسعارها. وتتجاوز أسعار الساعات القديمة والمهارز وبعض اللوحات المائة دولار، فيما وصل سعر بعض أجهزة الاتصال القديمة والآلات إلى 200 دولار، وبعض الجرار من الفخار الأصلي إلى الألف دولار. كما تقدر أسعار الأرائك والكراسي والطاولات المطلية بالذهب والفضة بنحو ألفي دولار.
ويفسر باحثون اهتمام الجزائريين بالتحف القديمة بأنه تعلق بالتراث المادي الوطني. ويقول الباحث في علم الاجتماع الثقافي ياسين زيبوش إن تعلق الجزائريين واهتمامهم بالتحف القديمة يعود إلى طبيعة الشخصية الجزائرية المتعلقة بتاريخها وثقافتها وتراثها المادي، ويشير إلى "أهمية هذه المواد التاريخية باعتبارها شواهد على تقاليد وعادات ووسائل اعتمد عليها الإنسان في مرحلة معينة تجسد تلك المرحلة من كل جوانبها، وتعبر عن مراحل تطور الثقافات والعلوم لدى الإنسان".