تعاني الدنمارك، مثل دول أوروبية أخرى، من الشيخوخة وتدني معدلات الخصوبة، وتحذر هيئة الإحصاء الدنماركية من عواقب وخيمة لتدني معدل الخصوبة إلى أقل من 1.7 طفل لكل امرأة، على صعيد التخطيط في مراكز الرعاية والمدارس والاقتصاد والنظام السياسي.
وأظهرت أرقام نشرتها مؤسسات دنماركية عدة، أن التراجع في إنجاب الأطفال مستمر منذ سنوات، وأن البلد الذي يسكنه نحو 5.9 ملايين شخص يتجه إلى نقص في السكان، بعد أن كان خبراء يأملون في الزيادة عبر رفع متوسط الولادات إلى نحو 10 آلاف سنوياً.
ويقول كبير الباحثين في المستشفى الوطني في كوبنهاغن، نيلز إريك سكاكبيك: "في نهاية المطاف لن نكون قادرين على الحفاظ على مجتمعنا، ولن نجعله يتماسك. أشعر بالقلق من أن عدم قدرة كل جيل على إعادة إنتاج نفسه سيتسبب في عواقب اجتماعية هائلة، وهو ما يحدث في اليابان وكوريا الجنوبية حالياً".
وأبرز ما يقلق المتشائمين أن عواقب التغيّرات بدأت تظهر، وهم يلاحظون خصوصاً أن العلاقة بين الشباب وكبار السن تحوّلت في اتجاه غير صحي خلال السنوات الـ20 الماضية، وتزداد سرعتها مع تزايد عدد كبار السن.
ولا تتعلق مسألة نقص السكان في الدنمارك بتغطية نقص العمالة، بل بما يسميه الباحثون "هوية البلد"، وما يجب أن يكون عليه في المستقبل، وهم يتخوفون من أن تسير معدلات الخصوبة إلى وضع مماثل لليابان وكوريا الجنوبية، حيث يتراوح معدل الولادات بين طفل و1.3 طفل، ما يسبب مشاكل اجتماعية يريدون أن يتجنب بلدهم الوقوع فيها.
وفيما يطرح البعض قضية تعويض النقص بزيادة أعداد القادمين إلى البلد من دول أوروبية أخرى، يستبعد خبراء أن يوفر هذا الاقتراح الحل المنشود، خصوصاً أن بلداناً متقدمة أخرى تعاني من نقص سكاني، وتحاول الحفاظ على مواطنيها بدلاً من أن تتركهم يهاجرون.
ويعزو باحثون متخصصون في مجال الخصوبة في الدنمارك تراجع إنجاب الأطفال إلى عوامل عدة بعضها ثقافي واجتماعي وبيئي، إضافة إلى تغيّر النظرة النمطية لمفهوم تكوين الأسرة لدى الأجيال الجديدة.
ويرى متخصصون في خصوبة الرجال أن تفسيرات بيولوجية تلعب دوراً في التراجع، وبينها التأثر بملوثات المواد الكيميائية الناتجة من الاستهلاك المتزايد للوقود الأحفوري. ويعتبرون أن المواد الكيميائية تؤدي إلى اضطراب في الهرمونات، وهذا أمر غير جيد لإنتاج الحيوانات المنوية.
ويعاني كثيرون من الشباب المتزوجين من مشكلات الإنجاب، إذ يولد اليوم أعداد أكثر بمساعدة أنظمة الرعاية الصحية. ويختار واحد بين كل 5 رجال عدم الإنجاب، فيما وُلد واحد من كل 10 أطفال من خلال تدخل صحي للمساعدة في الحمل.
ويدفع الضغط الديموغرافي، المرتبط بتزايد كبار السن وتراجع الأطفال، السياسيين إلى أخذ أرقام هيئة الإحصاء على محمل الجد. وتطرح حكومة الائتلاف برئاسة ميتا فريدركسن تصورات مختلفة عن خطة "دنمارك المستقبل" التي تمتد حتى عام 2030، بعدما تبين أن التوقعات السابقة التي قُدمت بزيادة المواليد لم تتحقق، إذ تراجع العدد المتوقع من أكثر من 63 ألف طفل إلى نحو 58 ألفاً.
وتُظهر الأرقام أن أعداد المواليد تتراجع بشكل مستمر منذ عام 2016، ما يعني عزوف كثيرين عن الإنجاب، وتأجيل آخرين هذا الأمر حتى سن متأخرة.
ويطالب رئيس قسم الخصوبة في المستشفى الوطني، سورين زيبي، بتفادي الحديث عن طفرة في المواليد والتوقعات المتفائلة المضللة للنمو السكاني، لأن هذا الأمر يسيء إلى الخطط المتعلقة برعاية الأطفال وتوفير العمالة، مشيراً إلى خطأ التوقعات السابقة التي تحدثت عن أن البلد سيكون لديه نحو 72 ألف و500 ولادة في عام 2025، في حين تفيد الوقائع بأن السنوات القادمة لن تشهد إلا نحو 60 ألف ولادة سنوياً.
ويحذر مدير هيئة الإحصاء، بيتر فيغ ينسن، من أنه "بغض النظر عن الأسباب فإن الوصول إلى معدل خصوبة 2.1 طفل للمرأة الذي يسمح بأن يحل كل جيل بدلاً من الجيل السابق، ليس أمراً بسيطاً مع تراجع الخصوبة إلى 1.7 طفل، علماً أنه بلغ 1.55 طفل العام الماضي في أدنى مستوى طوال 35 سنة".
ويعتبر البروفيسور سكاكبيك أن "الأزمة الإنجابية ستؤدي إلى انكماش عدد السكان على المدى البعيد، وتغيير الصورة الكلية للحالة الديموغرافية للدنماركيين الذين يعيش بينهم مئات الآلاف من المهاجرين واللاجئين (نحو 13 في المائة من عدد السكان)، ما سيقلص التفاؤل حتى بعد 50 سنة".
ويؤكد المتخصصون أن الأسباب البيولوجية والثقافية لعدم الإنجاب لن تتغير من دون وضع خطط طارئة، وإيجاد توافق سياسي واجتماعي على ضرورة رفع معدل الولادات، علماً أن كثيرات يربطن عدم الإنجاب المبكر بـ "الإجهاد" في تأسيس حياتهن، وإنهاء التعليم، وتحقيق أنفسهن في سوق العمل. وخلق ذلك عملياً فجوة بنحو 100 ألف مولود أقل في البلد خلال السنوات الماضية، وهو ما يتوقعه المتخصصون للسنوات العشر المقبلة.