لا حصر للأوجاع الجسدية التي تصاحب يوميات جرحى الثورة السودانية الذين تعرضوا لأنواع إصابات مختلفة جعلت بعضهم من ذوي الإعاقات. وهؤلاء يتأوهون أكثر أيضاً من إهمال الدولة والمجتمع أوضاعهم.
وكان العنف المفرط الذي واجهت به قوات الأمن السودانية الثوار بدءاً من ديسمبر/ كانون الأول 2018، ومروراً بفض اعتصام محيط قيادة الجيش في يونيو/ حزيران 2019، وصولاً إلى مرحلة الانقلاب الأخير في 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أدى إلى مقتل عشرات وجرح مئات.
وحتى اليوم، لا محصلة رسمية لعدد الجرحى وأنواع إصاباتهم، بينما تقدر منظمات حقوقية هذا العدد بحوالى ألفين، بينهم أكثر من 400 في ولاية العاصمة الخرطوم فقط. وترصد 10 حالات إعاقة دائمة خلال الانقلاب الأخير تشمل 3 إصابات بشلل نصفي، وواحدة ببتر قدم، وأخرى ببتر يد، و4 شهدت فقدان إحدى العينين. وقبل سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في إبريل/ نيسان 2019، أحصيت 55 إصابة بإعاقات تسببت بعضها في تدني درجة الوعي، وأخرى بفقدان أحد الأطراف أو بشلل أو حروق. وقد تكررت هذه الإعاقات لعشرات الأشخاص في الفترة من إبريل/ نيسان وأغسطس/ آب 2019.
ألم وانتصار
وبين هؤلاء المصابين بكري الفاضلابي البالغ 26 من العمر، وهو طالب في كلية علوم الجغرافيا بجامعة الخرطوم، الذي أصيب بجسم متفجر لم يعرف نوعه حتى اللحظة حين انضم قبل 3 سنوات إلى موكب تحرك من جامعة الخرطوم للمطالبة بإسقاط نظام البشير. وقد نُقل حينها بسرعة إلى مستشفى قريب حيث قرر الأطباء بتر 3 من أصابع يده اليمنى، ثم استكملوا بعد أسابيع بتر اليد بعد موضع الكف مباشرة، لأن حالتها لم تتحسن.
يوضح الفاضلابي لـ"العربي الجديد" أن "منظمات تنشط في مجال علاج الجرحى غطت قسماً كبيراً من تكاليف علاجه في المرحلة الأولى للواقعة. وهو يشكرها على مبادراتها تجاهه، لكن يرى أن الدولة بعد سقوط نظام البشير لم تظهر أي اهتمام بوضعه مع باقي الجرحى، في وقت يحتاج بعضهم إلى تركيب أطراف صناعية يفترض أن توفرها الدولة لهم مع تأمين الرعاية الكاملة المطلوبة لحالاتهم.
ويشدد على ضرورة إعداد إحصاءات دقيقة لعدد الجرحى، ودرس أوضاعهم الاجتماعية، وتحديد احتياجات كل منهم، وما يمكن أن يُقدم لهم. ويقول: "بعض الجرحى طلاب يجب مساعدتهم في تحصيلهم العلمي عبر توفير الجامعات منحاً دراسية لهم، وإعفائهم من رسومها، وكذلك ضمهم إلى قوائم التأمين الصحي الكامل لهم ولأسرهم، لا سيما أن بعضهم كانت تعتمد عليهم أسرهم في المأكل والمشرب. كما لا بدّ من تقديم دعم نفسي دائم لهم".
لكنه يستدرك بأنه غير نادم على مشاركته في المواكب والتظاهرات، "خصوصاً أنها أفضت إلى انتصار نسبي وصغير بسقوط نظام البشير". ويصرّ على مواصلته مع باقي الجرحى معركة إكمال الثورة وتخطي عقباتها، وآخرها الانقلاب العسكري في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي الذي أسفر عن ضحايا جدد.
فرص للعلاج الخارجي
فعلياً، احتاج جرحى كُثر خلال الفترة السابقة إلى علاجات خارج السودان، لكن قليلين حصلوا على هذه الفرص، وبينهم 4 مصابين بشلل وصلوا قبل أيام إلى أوكرانيا، ونقلوا إلى أحد أكبر مستشفياتها وسط اهتمام من السفارة السودانية وجاليتها. وهم سيخضعون لعمليات جراحية وعلاج فيزيائي بأمل إعادتهم إلى حياتهم الطبيعية.
ومطلع ديسمبر/ كانون الأول الجاري، نقل 9 جرحى إلى القاهرة، تنفيذاً لتوجيهات أصدرها رئيس الوزراء عبد الله حمدوك الذي يؤكد أن علاج جرحى الثورة وحل مشاكلهم أولوية لحكومته التي تدير المرحلة الانتقالية، علماً أنه شكل لجنة لمتابعة ملفاتهم، وكلّف السفارة السودانية في القاهرة بتسهيل مهمات علاجهم. ويرى حمدوك أيضاً أن الجرحى يحتاجون إلى إعادة تأهيل نفسي لوضعهم على سكة مواصلة طريق البذل والعطاء، وتوفير علاجات لهم تتجاوز تلك الجسدية إلى النفسية والاجتماعية.
وكان لافتاً الاهتمام الذي أولاه الانقلاب العسكري الأخير بملف الجرحى، وتبنيه إرسال 7 منهم إلى القاهرة في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، مع كشفه نيته إرسال 26 آخرين خلال الفترة المقبلة، بالتنسيق مع السلطات المصرية التي فتحت لهم أبواب مستشفيات البلاد.
وسبق أن نظم الجرحى وأسرهم اعتصاماً مفتوحاً استمر أياماً قرب مقر مجلس الوزراء في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، قبل أن يُرفع لاحقاً بعدما تعهد مجلس الوزراء النظر في مطالبهم وتلبيتها.
"متاجرة" بالأوجاع
ويرى أحد الجرحى خالد سليمان آدم في حديثه لـ"العربي الجديد" أن "تكرار الكلام عن اهتمام الدولة برعاية الجرحى ومعالجتهم بات يندرج ضمن الاستهلاك السياسي والمتاجرة بهم وبأوجاعهم، وصولاً حتى إلى استخدام ملفهم لإكساب الانقلاب الأخير الشرعية".
ويتابع آدم الذي أنشا مع آخرين منظمة "جرحى ومصابي ثورة ديسمبر" ويدير مكتبها للتأهيل والتدريب: "يطغى الإهمال على التعاطي مع ملفات الجرحى". ويتحدث عن إصابته أثناء فض اعتصام محيط قيادة الجيش عام 2019 برصاصة اخترقت منطقة الحوض، وهشمت العظام ووصلت إلى الأمعاء، ويقول: خضعت لعلاجات لأسابيع في 3 مستشفيات، ولا تزال الإصابة تؤثر على العصب في منطقة الفخذ الذي يمنعني من تحريك رجليّ. وقد فشلت كل جلسات العلاج الطبيعي التي خضعت لها".
ويعتبر أن "وجوه التقصير متعددة في التعامل مع قضايا الجرحى، فبعضهم لم يجد أي علاج في الداخل والخارج، ولم يحصلوا على دعم اجتماعي. كما يشمل عدم تحديد عدد الجرحى وتجاهل تبني قضاياهم القانونية، لذا تأسست منظمة جرحى ومصابي ثورة ديسمبر لمحاولة التعامل مع هذا التجاهل واحتواء سلبياته عبر إجراء اتصالات لتوفير التأمين الصحي للجرحى ووسائل نقلهم إلى المستشفيات، والتنسيق مع جهات بينها اللجنة الفنية التابعة لمجلس الوزراء من أجل تجهيز مبنى من 3 طوابق يضم 11 شقة لإسكان المصابين. لكن هذا المبنى غير ملائم لذوي الإعاقات حالياً، لكونه قديما ومشاكله كثيرة، ولا يحتوي على مصعد".
ورأى آدم أن "الحل النهائي لقضايا الجرحى يتمثل في إنشاء مفوضية مستقلة تعنى بهم وتتلخص أهدافها في تلبية احتياجات علاجهم وتعليمهم والدفاع عن حقوقهم ودعمهم اجتماعياً ونفسياً. وهذه المفوضية ستواجه البيروقراطية التي عانى منها الجرحى في تعاملهم مع دوائر الدولة، وتنهي ظاهرة زعم أطراف الحرص على علاجهم".
اقتراح رواتب للجرحى
من جهته، لم ينضم عبد اللطيف أحمد إلى موكب خرج في 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي لرفض الانقلاب، لكنه مرّ قرب مجموعة من قوات الأمن اعتدت على شاب فتدخل بينهم وتلقى نصيبه من الضرب المبرح في كل أجزاء جسمه. لكن آثار الاعتداء ظهرت عليه بعد أيام عبر فقدانه القدرة على النظر في عينه اليسرى، وشعوره بأوجاع في الصدر بسبب كسور، وأخرى بسبب جرح في الكلى. وبمرور الوقت اكتشف الأطباء أن جرح الكلى تسبب في مضاعفات تحتم خضوعه لجلسات غسل الكلى، ثم قرروا إجراء عملية جراحية له زادت مخاطرها بوجود جلطة قديمة لديه.
ويشير عبد اللطيف في حديثه لـ"العربي الجديد" أنه تعرض لضغوط نفسية واجتماعية ومادية كثيفة في الأسابيع الماضية، قبل أن تدعم مبادرة "حاضرين" ولجنة أطباء السودان المركزية مواصلة علاجه. ويشرح أنه حاول في المراحل الأولى تغطية تكاليف علاجه من موارده الشحيحة، لكن ارتفاعها حتم محاولته نيل دعم منظمات غير حكومية. وهو استنكر بالتالي بشدة إهمال الدولة لحاله إلى جانب جرحى آخرين الذين اقترح إنشاء مستشفيات خاصة بهم مثل تلك التي للعسكريين من أجل توفير فرص إجراء فحوص طبية لهم وإخضاعهم لعناية كثيفة ومتابعة دورية.
وفي شأن الأحوال الاجتماعية، يتحدث عبد اللطيف عن تضرر أسر لعائلات جرحى تعيلهم، ما يجعلها تواجه ظروفاً معيشية صعبة اليوم تتطلب معالجة تأثيراتها السلبية تخصيص رواتب شهرية لها، وإلحاقها بالتأمين الصحي.
أما الصحافي علي فارساب الذي تعرض لضرب بعصي وهراوات وأعقاب بنادق من عناصر ارتدوا زيّ الشرطة وآخرين بزي مدني لدى انضمامه إلى موكب تظاهر في 17 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، فيروي لـ"العربي الجديد" أنه أعتقل رغم أنه أصيب بكسر في يده وبجرح سطحي في الرأس نتج من رصاصة، لكنه لم يسمح له بتلقي العلاج، وهو ما حصل مع جرحى آخرين أوقفوا أثناء الاحتجاجات الشعبية، ما تسبب في مضاعفات صحية كبيرة له.
مبادرة "حاضرين"
إلى ذلك، يكشف مسؤول ملف الجرحى في مبادرة "حاضرين" ايمن سعيد، أن عددهم تجاوز الألفين حتى أغسطس/ آب 2019، ثم انضم إليهم أكثر من 700 بعد انقلاب 25 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. ويخبر "العربي الجديد" أن "أنواع الإصابات تختلف بين شخص وآخر، وبينها إصابات مباشرة بالرصاص وعبوات الغاز المسيّل للدموع، والضرب بهراوات وأعقاب بنادق ودهس وغيرها".
ويتابع: "تبذل مبادرة حاضرين جهوداً لتلبية احتياجات معالجة الجرحى وأولئك الذين يعانون من إعاقات دائمة، ونقل بعضهم إلى الخارج، لكنها لا تستطيع تغطية نفقات الجرحى بنسبة مائة في المائة".
وعلى الصعيد الاجتماعي، يشير سعيد إلى أن "مبادرة حاضرين دعمت مادياً حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2020 جرحى منعتهم إصاباتهم من العمل فترات محددة ـأو طويلة. ثم أوقفت ذلك بعد إنشاء مجلس الوزراء لجنة خاصة لمتابعة أمورهم مباشر، وتولي منظمات محددة هذه المهمة أيضاً. ونعتقد بأن الدولة المدنية يجب أن تتعامل مع ملف الجرحى عبر إنشاء مفوضية خاصة لمعالجة الجرحى، ومتابعة حالاتهم الاجتماعية والنفسية مباشرة".