استقالت رئيسة جامعة هارفارد الأميركية، كلودين جاي، الأسبوع الماضي من منصبها بعد شهر عاصف شهد حملات تشهير ضدها وضد مسؤولي عدد من كبرى الجامعات الأميركية، بتهمة عدم القيام بما يكفي لمحاربة "معاداة السامية"، وهتافات "إبادة اليهود".
جاء ذلك في سياق قيام مجموعات طلابية بنشاطات مناصرة للشعب الفلسطيني ومعاداة سياسات الاحتلال الإسرائيلي داخل الجامعات، شملت التنديد بجرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال ضد الفلسطينيين، خصوصاً في قطاع غزة. لكن استقالة جاي، ومن قبلها استقالة رئيسة جامعة بنسلفانيا، إليزابيث ماجيل، لا تتعلقان بالقضية الفلسطينية فحسب، بل ترتبطان أيضاً بالمناخ السياسي الأميركي، وبصراعات السياسة الداخلية، وتصاعد نفوذ اليمين، ومحاولات اختراق الحقل الأكاديمي.
وتتصاعد ظاهرة معاداة اليهود خلال الآونة الأخيرة في العديد من مناطق العالم، بما فيها دول غربية، على رأسها الولايات المتحدة، ومن المهم التمييز بينها وبين الانتقادات المشروعة لسياسات الحكومة الإسرائيلية، وممارساتها العنصرية ضد الفلسطينيين، والتي يعارضها يهود معادون للصهيونية وللاستعمار الإسرائيلي ولنظام الفصل العنصري في فلسطين، وهؤلاء لهم حضور بارز في التظاهرات المناصرة لأهل غزّة خلال الأشهر الأخيرة. في حين يتواصل تصوير معارضة السياسات الإسرائيلية على أنها "معاداة سامية"، ويهدف هذا الخلط المقصود إلى نزع الشرعية عن المطالب الفلسطينية، ويهدف أيضاً إلى ترهيب وإسكات المدافعين عن القضية الفلسطينية في الولايات المتحدة والدول الغربية، وحتى المدافعين عن حرية التعبير والحريات الأكاديمية بغضّ النظر عن موقفهم من القضية الفلسطينية، ولا يسلم من ذلك اليهود الذين يعادون الصهيونية، والذين يوصمون بأنهم "كارهون لأنفسهم".
يعارض طلاب يهود الصهيونية والاحتلال الإسرائيلي ونظام الفصل العنصري
وركّزت حملة التحالف الصهيوني اليميني على تجريم الشعارات والهتافات التي رددها الطلاب والمتظاهرون الأميركيون خلال الأشهر الأخيرة، وهي هتافات متجذرة في تاريخ النضال الفلسطيني، ومتداولة في صفوف اليسار الأميركي منذ عقود. وتمحور الجدال ومحاولات التجريم حول معنى مفردات مثل "انتفاضة"، وهتافات "ثورة ثورة حتى النصر" و"فلسطين حرة من النهر إلى البحر"، وهي من ضمن الهتافات التي استخدمها الطلاب المناصرون لفلسطين.
وصورت هذه الهتافات على أنها خطاب يهدف إلى إبادة اليهود، وزعم طلاب يهود من مناصري إسرائيل أنهم لا يشعرون بالأمان في جامعاتهم بسببها، وبسبب النشاطات المناصرة للقضية الفلسطينية، والمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة.
وكان لمعنى هذه الهتافات وخطورتها المتخيلة حضور في جلسة بالكونغرس استمرت لخمس ساعات، في الخامس من ديسمبر/كانون الأول، ودارت حول معاداة السامية في حرم الجامعات الأميركية، واستُجوبت فيها رئيستا هارفارد، وپنسلفانيا ورئيسة معهد ماساتشوتس للتكنولوجيا "إم آي تي".
لم يستغرق الأمر الكثير من الوقت كي تبدأ التداعيات، فاستقالت ماجيل من رئاسة جامعة بنسلفانيا، وبعد قرابة الشهر تبعتها استقالة جاي من رئاسة هارفارد، وهي أول امرأة سوداء ترأس الجامعة في تاريخها. جاءت الاستقالتان بعد موجة التشهير والأكاذيب التي قادها اليمين، بل إن كثير من الليبراليين ساهموا فيها، سواء بالصمت، أو بتغذيتها لأسباب كثيرة ومعقدة.
واللافت في قضية جاي أنها كانت في البداية مصرة على مقاومة الهجمة، خصوصاً أن مجلس الأمناء وعدداً كبيراً من الأساتذة دعموها. لكن حملة الهجوم استمرت، وأصبحت شخصية، وبدأ الهجوم على سجلها الأكاديمي، واتهامها بعدم التزام قواعد الاقتباسات الأكاديمية في بحوثها.
وبغضّ النظر عن صحة هذه الادعاءات، كانت الحملة منظمة وشرسة، ويبدو أن جاي توصلت إلى اتفاق مع الإدارة على الاستقالة من المنصب مقابل البقاء في مهنتها أستاذة بالجامعة.
الجامعات في نظر اليمين الأميركي معقل اليسار والأفكار الراديكالية
قد يظن المرء أن الرئيستين اللتين استقالتا كانتا تدعمان حق الطلاب المناصرين للقضية الفلسطينية في حرية التعبير، أو انتقدتا إسرائيل، لكن العكس هو الصحيح، فقد ساهمتا في قمع حرية التعبير، ولم تقدما أية حماية للأساتذة والطلاب الذين تظاهروا أو نظموا نشاطات مناصرة لفلسطين، والذين تعرّضوا للهجوم والمضايقات التي وصلت إلى حد محاربة عائلات بعضهم.
وبعد استقالتها، نشرت جاي مقالاً في صحيفة "نيويورك تايمز"، لم تذكر فيه بكلمة واحدة العدوان على غزة، وآلاف الذين قتلتهم قنابل إسرائيل وصواريخها بدعم من الولايات المتحدة.
يؤكد أستاذ التاريخ بجامعة بارد في ولاية نيويورك، زياد أبو الريش، لـ"العربي الجديد"، ضرورة النظر إلى ما يحدث في هذه الجامعات وفق السياق الأميركي، ويشرح قائلاً: "قبل أن تدلي جاي بإفادتها أمام الكونغرس، لوحظ أنها كانت جزءاً من قمع الحركات الطلابية المتضامنة مع فلسطين داخل الجامعة، بما في ذلك قمع حرية التعبير عن الرأي، وعدم الدفاع عن الطلاب أو الأساتذة الذين تعرضوا للتهديد. يجب أن يكون هذا واضحاً بغضّ النظر عمّا يدعيه اليمينيون والمناصرون لسياسات حكومة إسرائيل. صحيح أنها تعرضت لحملة شرسة، ولكن في الوقت نفسه، يجب ألّا نعتبر أن تلك الحملة كانت بسبب دفاعها عن حقوق الفلسطينيين، أو الطلاب والأستاذة".
يضيف أبو الريش: "يلاحظ أيضاً في إفادتها أنه بدلاً من أن تنتقد الادعاءات، وتنفي أن شعارات مثل (انتفاضة) و(من النهر إلى البحر) شعارات لا تطالب بإبادة جماعية لليهود أو الإسرائيليين، وبدلاً من أن تعطي سياقاً تاريخياً لها، قبلت بذلك الطرح بشكل كلي، وحتى بعد الإفادة في مقال الرأي الذي كتبته بعد الاستقالة، وفي البيانات التي صدرت عنها بعد السابع من أكتوبر، عبّرت عن حزنها وحزن الجامعة، وعن إدانتها لتلك العمليات، ووقفت بشكل لا لبس فيه مع الحكومة الإسرائيلية. لكن كل هذا لم يكن كافياً، لأنها لم تدعم إسرائيل بالطريقة التي أرادها معارضوها".
ومن الجدير بالذكر أن حملات اليمين ضد الأساتذة والطلاب ليست جديدة، فالجامعات في نظر اليمين الأميركي معقل اليسار والأفكار الراديكالية منذ عقود، لأنها تسمح بإنتاج خطاب نقدي. وزادت الحملات ضدها شراسة في السنين الأخيرة، وبالذات خلال فترة حكم دونالد ترامب، حين عاد موضوع العنصرية وحقوق السود إلى الواجهة، وحين تصاعدت أصوات اليمين والقومية البيضاء العنصرية.
ويتمحور الجدال حول أساليب تدريس التاريخ ومناهجه، ومراجعة الأساطير القومية المؤسسة للبلاد، ونقاشات تاريخ العبودية، ويحاول اليمين قمع وشيطنة تدريس النظريات النقدية حول العرق في الجامعات، وحتى في المدارس الثانوية، حتى إن بعض حكام الولايات جعلوا الموضوع ضمن برامجهم الانتخابية.
وهناك عامل آخر، هو النفوذ المتزايد للأغنياء وأصحاب رؤوس الأموال الذين يتبرعون بملايين الدولارات سنوياً للجامعات، ولديهم تأثير بسبب وجودهم في مجالس الأمناء، وقد بدأ هذا المنحى الخطير منذ أكثر من أربعة عقود، حين انحسر الدعم الحكومي للجامعات بسبب خفض الضرائب، وزاد التوجه نحو المتبرعين.
على سبيل المثال، يُعَدّ رأس حربة الحملة على جامعة هارفارد وطلابها المناصرين لفلسطين، المليونير الأميركي بيل أكمان، وهو متخرّج من هارفارد، وقد تبرّع بـ25 مليون دولار للجامعة، والمفارقة أن أكمان بعد تشجيع حملة التشهير برئيسة هارفارد، واتهامها بالسرقة الأكاديمية في أبحاثها، كان عليه أن يذوق ذات السم، إذ ثبت أن زوجته الإسرائيلية قد انتحلت مقاطع في أطروحتها التي قدمتها لجامعة "إم آي تي".
ويلفت الأكاديمي أبو الريش الانتباه إلى عامل إضافي مهم، وهو "رفض اليمين والمحافظين التنوع الإثني في الجامعات، وغضبهم من وصول الأقليات إلى المناصب المهمة. هكذا انضم هؤلاء إلى الحملة، وقد تتقاطع تلك الأجندة مع دعم إسرائيل، لكنهم استغلوا الفرصة ليقولوا إن هذا ما يحدث في الجامعات عندما تكون الرئيسة امرأة سوداء. وهي ادعاءات غير صحيحة إذا أخذنا بالاعتبار سيرتها المهنية، وما قدمته في الحقل الأكاديمي".
ويؤكد عدد من المراقبين أن من يقفون صامتين من الليبراليين، ولا يدافعون عن حرية تعبير الطلاب والأساتذة، قد لا يدركون أن حملة اليمين المحافظ لن تتوقف، لأن هدفها توسيع النفوذ في الحقل الأكاديمي، وفرض أنفسهم على مناهج التدريس وطرقه، وتحديد الأولويّات فيها، وهو أمر غاية في الخطورة على الحقل الأكاديمي الأميركي.