ما قيمة الطيور - ما قيمتها الفعلية بالدولار في المجتمع الإنساني؟ بالنسبة إلى معظمنا في مجتمع علم الطيور، لا تقدر الطيور بثمن. لكننا نحتاج في هذه الأوقات إلى مبررات أكثر تحديداً لإقناع صانعي السياسات والقرارات بتبني موضوع الحفاظ على الطيور في قرارات استخدام الأراضي والتنمية.
ففي العقدين الماضيين، اعتمدنا على توعية الناس بمجموعة متنوعة من خدمات النظام البيئي المفيدة للمجتمع البشري، من أجل حث الناس على حماية التنوع البيولوجي والحفاظ عليه، لكن العديد من صناع السياسات والقرارات فسروا هذه الجهود بأنّها ترف. من هنا سنركز على الخدمات التي تقدمها الطيور للنظام البيئي، وكيفية مساهمتها نفسها في تحقيق رفاهية الإنسان.
تنقسم خدمات النظام البيئي إلى أربع فئات، أولها خدمات الإمداد التي تشير إلى طبيعة المنتجات التي يستخدمها البشر مباشرة للطعام (طائر الفري أو السمّان كغذاء) والملابس والأدوية أو الأدوات أو الاستخدامات الأخرى. والثانية الخدمات الثقافية الترفيهية من اجل إلهام الفن والموسيقى والقيمة الروحية (مثل الطيور في الشعر والأغاني والكتب السماوية). أما الخدمات الثالثة فإطارها تنظيمي يتعلق بمكافحة الآفات وإزالة الجيف (كالعصافير التي تأكل الحشرات والنسور التي تأكل الجيف)، والرابعة خدمات الدعم، مثل التلقيح (كطائر أبو الزهور) ونثر البذور (كطائر أبو زريق)، وتوفير تنقية للمياه وتدوير المغذيات لأجل عمليات المجتمعات البيئية والنظم الإيكولوجية الزراعية.
وضمن هذه الفئات لا بد من الإشارة إلى أنّ الطيور هي فئة الحيوانات الفقارية الأكثر شهرة في تقديم خدمات ضمن الأنظمة الإيكولوجية، وتوجد في أنحاء العالم وجميع الموائل تقريباً، وتوفر خدمات عدة، ما يجعلها تشكل المجموعة المثالية لتقييم خدمات النظام البيئي. فهي تلعب دوراً أساسياً في مكافحة آفات الحشرات، ونثر البذور. وهذه الأنواع من الخدمات هي الأصعب في التحديد الكمي، خصوصاً أنّ أكثر من 50 في المائة من الطيور تأكل حشرات.
وفي لبنان، يبلغ عدد الطيور التي تأكل الحشرات نحو 280، مثل الدخلة المعروفة بالتيان والهازجة والمويت وحوام العسل الذي لا يأكل سوى اليرقات، وعصافير القصب. وتعد فائدتها عالية جداً في تنمية المحاصيل لدرجة أنّ الفلاح أصبح يضع لها عيداناً تقف عليها وسط الحقل لتراقب الحشرات وتلتهمها، ويزرع لها أشجاراً برّية في الحقل وحوله لتأويها. كلّ ذلك لتفادي استعمال مبيدات حشرات.
وفي الأنظمة البيئية الحرجية والزراعية، توضع أعمدة مراقبة للطيور الجارحة (الصقور والبواشق في النهار وطيور البوم في الليل) من أجل التخلص من القوارض، خصوصاً فئران الحقل. وجرى تعميم هذه الطريقة بعدما أنقذت الطيور الجارحة في أستراليا محاصيل الصويا، وزادتها في شكل ملحوظ. ومن خدمات الطيور في النظام البيئي القضاء على أنواع من الحشائش الضارّة، وهو ما فعلته عصافير الحساسين في نيوزيلندا التي استوردتها للزينة في مرحلة أولى، لكنها وجدت لاحقاً أن هروب الحساسين من الأقفاص جعلها تقضي على حشائش ضارّة كثيرة أكلت بذورها.
واليوم تشكل الحساسين أداة تستخدم بدلاً من مبيدات الأعشاب. وتلقّح 30 في المائة من العصافير مثل أبو الزهور وعصافير الدخلة على أنواعها أشجاراً ونباتات أخرى. ونذكر من الطيور التي تحمي الغابات القيقب الذي يخلّص الصنوبر من ديدان الصندل، وأبو زريق الذي يزرع بذور الأشجار حول الغابات وفي فسحاتها الداخلية، وطائر نقار الخشب الذي يخلص الأشجار من الديدان التي تحفر جذوعها، والصلنج الذي ينظفها من الحبوب التي تنخرها السوسة ومن حشرة صرصار الشجر (السيكاديل).
وتقوم طيور الماء بتنظيف البرك والأنهر والبحيرات من المواد العضوية الميتة واللافقاريات الحية للحفاظ على التوازن البيئي، وصفاء المياه وصحتها. وفي الهواء تلتهم أنواع السنونو والخطاف الحشرات الصغيرة الطائرة. وفي البحار، تساهم الطيور في تحقيق التوازن البيئي والانتقاء الطبيعي. أما النسور التي يكرهها الناس لأنها تأكل الأجسام الميتة (الجيف) فتلعب دوراً مهماً في منع انتشار الأمراض بين الناس. وفي جميع الأحوال، تعمل الطيور من خلال سلوكها في البحث عن طعام كروابط متنقلة تنقل الطاقة داخل الأنظمة البيئية وبينها. إذن، هنالك خدمات يمكن قياس كمياتها مثل خدمة تشتيت البذور من قبل الطيور وأخرى صعبة التحديد مثل تلقيح النباتات.
وعليه فالمطلوب المزيد من الأبحاث العلمية لفهم الاقتصاد في شكل أفضل من خلال تحديد قيمة الطيور بالعملة الصعبة لعلّ ذلك يساعد في تحسين السياسات واتخاذ القرارات الصائبة، وتعزيز وتبرير جهود الحفاظ على الطيور، وإثبات إيجابية الروابط بين الرفاهية والحفاظ على الأنظمة البيئية بعيداً عن عبث الإنسان، والحفاظ على التنوع البيولوجي للطيور.
(متخصص في علم الطيور البرية)