قد تدخل مزرعة خنازير في الصين وتجد عاملاً فيها حاصلاً على درجة ماجستير في الفلسفة، أو تشاهد خريجاً يحمل شهادات عليا ينفذ مهمة تعبئة سجائر في مصنع تبغ، وذلك بسبب عدم قدرة سوق العمل في البلاد على استيعاب أفواج الخريجين، ما يدفعهم إلى البحث عن وظائف متدنية.
تخرّج جامعات الصين ملايين الطلاب سنوياً، لكن معظمهم لا يحصلون على وظيفة لائقة، وينتهي بهم الأمر عاطلين عن العمل، أو في أحسن الأحول في وظائف لا تتناسب مع تخصصاتهم وثقاقاتهم وشهاداتهم العلمية.
تكشف بيانات وزارة التربية والتعليم الصينية أن أكثر من 9 ملايين خريج دخلوا سوق العمل هذه السنة، مقارنة بـ 8.7 ملايين العام الماضي. وأظهرت دراسة حديثة تفضيل الخريجين العمل في الأرياف بدلاً من المدن، لتجنب تكاليف المعيشة المرتفعة في المناطق الحضرية والتي قد تلتهم نصف رواتبهم. كما كشف إحصاء أجري في مقاطعة خنان (شرق) قبل فترة، أن نحو ثلث العمال الذين التحقوا حديثاً بمصنع للتبغ سمح بتشغيلهم، يحملون شهادات ماجستير وبكالوريوس في تخصصات مختلفة، وبعضهم من جامعات مرموقة.
في السياق، أثارت طالبة ضجة كبيرة في مواقع التواصل، بعدما كشفت أنها تعمل مدبرة منزل رغم أنها تخرجت من جامعة "تسينغ خوا" الشهيرة. كما أعلنت مدرسة ابتدائية في مدينة كوانجو (جنوب) أن عدداً من مدرسيها الجدد يحملون شهادة دكتوراه.
هذه القصص أثارت نقاشاً ساخناً حول المؤهل الذي يحتاجه المرء لمعالجة أوراق التبغ ولفّ السجائر، وطرحت تساؤلات عن مستقبل الخريجين وسط منافسة شرسة في سوق العمل، خصوصاً أن معدل البطالة بالنسبة إلى الخريجين الجدد ارتفع إلى نحو 14 في المائة. ويعزو مراقبون ذلك إلى عدم التوافق بين الوظائف المتاحة والتخصصات الأكاديمية.
خيارات بديلة "فوراً"
شياو لو جان أحد الطلاب الذين تخرجوا العام الماضي من كلية الدراسات الإنسانية في جامعة بكين. وعمل بعد تخرجه وحصوله على درجة البكالوريوس في إدارة التسويق بفندق في بكين، ويفكر حالياً في العودة إلى مسقط رأسه بمقاطعة شاندونغ (شرق) بأمل أن يجد فرصة عمل أفضل فيها.
يقول شياو لـ"العربي الجديد": "اعتقدت بأنني سأجد وظيفة بمجرد التخرج، لكني فوجئت بأن من تقدموا للوظيفة المتاحة ذاتها يحملون شهادات عليا (ماجستير وما فوق)، لذا قررت البحث عن عمل آخر لا علاقة له بتخصصي الأكاديمي". يضيف: "أشعر بأنني أهدر وقتي في هذه الوظيفة، لذا بت أفكر جدياً في العودة إلى بلدتي للعمل. على الأقل سأكون هناك بين أهلي، بينما ليست تكاليف المعيشة مرتفعة مثل العاصمة حيث أدفع أكثر من نصف راتبي على إيجار المنزل، والباقي بالكاد يكفي في تغطية مصاريف أخرى مثل الطعام والمواصلات".
من جهتها، تقول مي تشوان، التي تخرجت هذا العام بدرجة ماجستير في تخصص إدارة الأعمال من جامعة تيانجين، لـ"العربي الجديد": "لا أتوقع أن أجد وظيفة بسهولة. وإذا حصل ذلك، استبعد أن يكفي الراتب لتأمين احتياجاتي ومصاريفي اليومية. لذا أنشأت صفحة خاصة بي على تطبيق دوين لبيع بعض منتجات التجميل، وحققت عائدات مالية جيدة".
الريف أفضل
ورداً على سؤال عن الأسباب التي تدفع الخريجين من حملة الشهادات العليا إلى العمل في وظائف متدنية، تقول الباحثة الاجتماعية بمعهد "غوانغ دونغ"، تانغ لي، لـ"العربي الجديد": "يرتبط ذاك بحتمية تلبية احتياجات أساسية تنفيذاً لقاعدة هرم ماسلو التي تشير إلى أنه حتى إذا حمل خريج شهادة دكتوراه، فهو لن يبحث عن تقدير الذات ما دام لا يجد مصدر دخل يلبي احتياجاته الأساسية مثل السكن والأكل والشرب". تتابع تانغ: "أقابل يومياً عشرات الخريجين من حملة الشهادات العليا، والذين يدركون أن الشهادة مجرد وسيلة لدخول سوق العمل المكتظ، لكنها قد لا تكفي لحصولهم على وظائف في مجال تخصصهم. وهكذا يقبلون بالعمل في وظائف متدنية قد ينفذ مهماتها طالب في المرحلة الثانوية أو حتى الإعدادية، من أجل الراتب. والمشكلة الأساس تتمثل في قلة الوظائف مقارنة بعدد الخريجين، وفي ارتفاع تكاليف العيش في المدن، والتي تستنزف الجيوب والحسابات المصرفية. من هنا يفضل كُثر السفر للعمل في الريف، أي في مسقط رأسهم، للإفادة من امتيازات لا تتوافر في المناطق الحضرية، مثل الرعاية الصحية والتعليم المجاني بالنسبة إلى الأبناء لأولئك الذين يفكرون بالزواج في المستقبل". وتطالب تانغ الحكومة بتعزيز قطاع الخدمات لإتاحة مزيد من فرص العمل في سوق يعتبر الأكبر في العالم، وأمام أفواج خريجين يتجاوز عددهم 8 ملايين سنوياً.
وكانت وزارة التربية والتعليم كشفت سابقاً أن أكثر من 40 مليون طالب تخرجوا من جامعات وكليات صينية خلال السنوات الخمس الماضية، وأن 77 في المائة منهم وجدوا وظائف بعد التخرج من دون أن تكشف إذا كانت هذه الوظائف تتناسب من تخصصاتهم. ولفتت إلى أن متوسط الراتب الشهري لخريجي الجامعات بلغ 5 آلاف يوان (771 دولاراً) فقط.
وقبل شهرين، قدمت شركة صينية لتربية الماشية عرضاً لجذب خريجين جدد مستغلة الأزمة التي يمرون بها، ولحظ دفع مبلغ 150 ألف يوان (23.150 دولاراً) سنوياً للموظفين الحاصلين على درجة البكالوريوس، و250 ألف يوان (38.600 دولاراً) لحاملي درجة ماجستير، و300 ألف يوان (46,300 ألف دولار) لحاملي درجة الدكتوراه.