تمكن مشاهدة التغير المجتمعي الكبير بمجرد التجول في شوارع إيران أو في السوق الكبير بالعاصمة طهران، فهناك تغييرات ملموسة في ملابس النساء، وخاصة الشابات، فضلاً عن اختفاء دوريات "شرطة الآداب"، الأمر الذي يشي بتوجه نحو حرية الملبس رغم بقاء القوانين، لينضم الحجاب إلى قائمة "محظورات مسموحات"، التي تضم أموراً محظورة قانوناً لكن تتغاضى السلطات عن تطبيق القوانين بشأنها، ومنها حظر وجود أطباق استقبال القنوات الفضائية في البيوت.
يتراجع انتشار غطاء الرأس "الحجاب" منذ الاحتجاجات الواسعة التي شهدتها إيران عقب وفاة الشابة مهسا أميني، بعد أيام من احتجازها لدى "شرطة الآداب" بتهمة عدم الالتزام بقواعد الحجاب في 16 سبتمبر/أيلول الماضي، وهو الحادث الذي أصبح يشكل مرحلة فارقة، فالاحتجاجات كانت مختلفة عن سابقاتها، وإن اتخذت أبعاداً سياسية، إذ اندلعت بسبب قضية اجتماعية، وكان هتافها الموحد "مرأة. حياة. حرية".
قامت "العربي الجديد" بجولة داخل العاصمة طهران عبر خط سريع للحافلات يربط شمال العاصمة، حيث يسكن الأغنياء، بجنوبها، حيث تعيش الطبقات المتوسطة والفقيرة ويقع البازار الكبير. يبلغ طول الخط نحو 30 كيلومتراً في شارع "ولي عصر". يلاحظ خلال الرحلة، سواء داخل الشوارع أو داخل الحافلة التي تخصص أماكن منفصلة للنساء والرجال، تغييرات ملحوظة في أزياء النساء، ويمكن القول إن نزع غطاء الرأس تحول إلى ظاهرة، إذ لا يقتصر على حالة أو حالات معزولة، فضلاً عن تجنب كثيرات ارتداء "المانطو" الذي يغطي الجسم حتى الركبة. بات من الممكن مشاهدة فتيات في الشوارع من دون غطاء الرأس، ويرتدين الجينز، حتى إن بعضهن يرتدين الجينز المثقوب.
التقت "العربي الجديد" عددا من الإيرانيات اللواتي خلعن غطاء الرأس لمعرفة دوافع قرارهن، ورواية تجربتهن. تقول أنيتا زارعي (27 سنة): "بعد واقعة وفاة مهسا أميني، أصبحت أملك من الجرأة والشجاعة ما يكفي للظهور داخل الأماكن العامة بما أحب من ملابس. خلال الاحتجاجات، مررت من دون الحجاب أمام القوات الخاصة المنتشرة في الشوارع، وقد منحني ذلك شعوراً بالثقة بالنفس، وشعرت بالتحرر، لأنه يحق لي أن أعيش كما أرغب".
وأكدت الشابة الإيرانية أنها لم تعد تشاهد "شرطة الآداب" في الشوارع، مضيفة: :"إن ذلك يمنحني المزيد من الشعور بالأمان. حتى إذا انتشرت هذه الدوريات مجدداً، فلن أعود إلى تغطية رأسي في الشارع. لن أعود إلى الوراء أبداً. أعمل في شركة للتجارة الإلكترونية، ولا تمنعني من العمل من دون حجاب، والموظفات يحضرن إلى العمل بأزياء مختلفة، وكل منا يحترم حرية الآخر في اختيار ما يرتديه".
وتضيف زراعي أن أمها متحجبة، وغالبية نساء أسرتها تلتزم بالحجاب، لكنهم "قبلوا بهذا الوضع، ولا يمنعونني"، لافتة إلى أن أسرتها كانت تعارض ذلك في بداية الاحتجاجات "لأسباب تتصل بأمني الشخصي".
بعد الثورة الإيرانية في عام 1979، فرض الحجاب على الإيرانيات عبر عدة مراحل، بدأت من داخل مؤسسات الدولة، وصولاً إلى الشوارع، وتنص مادة أقرت في عام 1983 ضمن قانون العقوبات الإسلامية على أن "عقوبة عدم ارتداء الحجاب الشرعي تتراوح بين دفع غرامة مالية والسجن من 10 أيام إلى شهرين، وتلقي 74 جلدة". لكن هذا القانون لا يطبق على أرض الواقع.
وزادت ظاهرة الكشف عن شعر الرأس وارتداء سراويل ضيقة أو مثقوبة ووضع مساحيق التجميل بين الفتيات في الشوارع الإيرانية مع حكومة "الإصلاح" في عهد الرئيس الأسبق محمد خاتمي (1997- 2005)، وقوبلت بتصاعد الانتقادات من الأوساط المحافظة، ما أدى في نهاية المطاف إلى تبني حكومة أحمدي نجاد المحافظة قانون "الحجاب والعفاف"، وتأسيس شرطة الأخلاق للتصدي لظاهرة عدم التقيد بقواعد الحجاب.
وتصدت دوريات شرطة الآداب لسنوات لمن يتجاوزن ضوابط ارتداء الحجاب العرفي المألوف، ثم أصبحت السلطات تقبل بالتخفيف مع مرور الوقت في ضوء تراجع الالتزام بالحجاب. وفي السنوات الأخيرة، باتت تغطية الرأس بشكل غير كامل مع إظهار جزء من الشعر شكلَ الحجاب الأكثر انتشاراً، وتراجعت أعداد الإيرانيات اللاتي يلبسن "الشادور" الأسود.
من ساحة "ولي عصر" في وسط العاصمة طهران، تقول دريا سلماني (33 سنة) لـ"العربي الجديد"، إنها بدأت تخلع الحجاب قبل عام ونصف العام تقريباً، وإن السبب الرئيسي كان رغبتها في إظهار قناعاتها وصولاً إلى "هدوء ذاتي". تضيف: لم تعد شرطة الآداب موجودة في الشوارع، وأستبعد إمكانية عودة دورياتها. هذا الاحتمال ليس قائماً لأن عدد اللواتي خلعن الحجاب كبير. عدد من نساء أسرتي متحجبات، وعلاقتنا وطيدة، وأحد الأقارب اعترض مؤخراً على خلعي الحجاب، لكنه عاد بعد أيام ليعتذر مني".
بدورها، تقول ساناز (25 سنة) لـ"العربي الجديد"، إنها ستعود إلى ارتداء الحجاب إذا ما عادت شرطة الآداب إلى الشوارع، لأنها لا تريد أي مشكلة لأسرتها بسببها.
وتؤكد المحامية والناشطة النسوية شيما قوشه، لـ"العربي الجديد"، أن "المطالبة بجعل الحجاب طوعياً في إيران ليست وليدة احتجاجات مهسا أميني، لكن الواقعة ساهمت في طرح هذا المطلب بشكل أقوى. في أول يوم عالمي للمرأة بعد الثورة، طرحت الإيرانيات مطالبهن خلال تظاهرة نسائية، والحجاب الإجباري بدأ في عام 1982، ومنذ ذلك الوقت، ترفض آلاف الإيرانيات الحجاب الإلزامي، وقد عبرن عن ذلك بطرق مختلفة، إلى أن انضمت إليهن محجبات، عدد منهن شغلن مناصب سياسية".
تتابع قوشة: "خلع الحجاب من قبل إيرانيات رافضات للإلزام هو نتيجة للكشف التدريجي عن الشعر، وتقصير المانطو رويدا رويداً منذ عقود، وإنتاج أفلام عن واقع الحجاب في البلاد خلال العقود الماضية، تكشف عن تغيير متدرج أوصلنا إلى ما نحن عليه اليوم، كما أن المجتمع الإيراني يشهد تحولات فكرية، وكثير من الأمور القائمة حالياً لم تكن مقبولة مجتمعياً قبل عقود، وعلى سبيل المثال، الأب الإيراني لم يعد ذلك الأب المتشدد، بل أصبح أكثر تفهماً لحرية بناته وحفيداته. الواقع الجديد ليس مؤقتاً أو عابراً، فالظواهر الاجتماعية الناتجة عن الفكر والوعي لا يمكن إلغاؤها، ومن كانوا يطالبون بالالتزام بقوانين الحجاب الإجباري لم يعودوا يتشددون في تطبيقه، ويقبلون بما بات يعرف بـ(الحجاب السيئ) الذي يظهر فيه جزء من الشعر".
في المقابل، حذر مسؤول صحيفة "كيهان" المحافظة حسين شريعتمداري، في مقال، من تحول خلع الحجاب إلى ظاهرة، و"صمت" السلطات، وعدم اتخاذ أية إجراءات، متسائلاً: "أليس حجاب النساء واجباً شرعياً وإلزاماً قانونياً؟ إهمال السلطات الظاهرة سيؤدي إلى اتساع رقعتها، لكن سيتصدى المؤمنون لتطبيقها".
بالتوازي مع ذلك، اتخذت السلطات المحلية في عدة مدن إجراءات ضد مراكز خدمية سمحت بدخول فتيات غير محجبات، فأغلقت سلطات أصفهان مركزين سياحيين، قبل أن تسمح باستئناف عملهما مع اقتراب عطلة النوروز.
ومع تصاعد الانتقادات المحافظة، أكد النائب بيجن نوباوه موافقة رؤساء السلطات الإيرانية الثلاث على مشروع جديد حول الحجاب، قائلاً إنه "بموجب هذا المشروع، فإن التصدي لخلع الحجاب سيجرى بطريقة غير مباشرة، ويشمل اتخاذ عقوبات مثل إغلاق خطوط الهاتف للمخالفات، أو حرمانهن من الإنترنت".
لكن عضو الهيئة الرئاسية للبرلمان، أحمد نادري، نفى وجود مشروع قانون لإغلاق خطوط الهواتف النقالة أو الإنترنت على غير المحجبات.
في السياق، يقول الكاتب أحمد زيد أبادي، لـ"العربي الجديد"، إن "برنامج الحكومة حول الحجاب غير واضح بعد، وإذا لم يتخذ قرار واضح يزيل التوتر، فستواجه البلاد تشنجات اجتماعية مكلفة للغاية. الحكومة تؤكد من جهة على ضرورة عدم استفزاز شرائح المجتمع، ومن جهة أخرى، تؤكد ضرورة تطبيق قانون (الحجاب والعفاف) عبر إغلاق أماكن تجارية وسياحية وخدمية".
بدوره، يؤكد مهدي غلشني، العضو السابق بالمجلس الأعلى الثقافي المناط به تخطيط السياسات الثقافية والاجتماعية، لـ"العربي الجديد"، أن "عدم التعامل مع الحجاب من منطلق ثقافي أدى إلى عدم تحوله إلى مكون هوياتي، والخارج يستغل قضية الحجاب في إيران سياسياً، لكن ينبغي القول إنه لا يمكن إلزام أحد بالحجاب".