"زنقة الستات"... متعة التبضع من أقدم أسواق الإسكندرية

في قلب محافظة الإسكندرية شماليّ مصر، يبرز سوق "زنقة الستات"، وهو أحد أقدم أسواق المدينة الشعبية وأشهرها، والذي يحتلّ مكانة كبيرة جعلته مقصداً للسياح والمواطنين، وعلى الرغم من كونه عبارة عن طريق ضيّق لا يتعدى عرضه متراً، ولا يسمح بمرور أكثر من شخصين متجاورين، لكنه يشهد حركة تجارية مستمرة، ليس فقط بسبب بضائع تتميز بالعراقة وأخرى حديثة، بل بسبب شهرته نتيجة الأحداث التاريخية التي عايشها.
من يتجوّل في داخله، يكتشف أنه يمتد مئات الأمتار الدائرية والملتفة حول ذاتها كالثعبان. ويأتي إليه الناس لغايات عدة. هناك فتاة تبحث عن ضالتها لاستكمال تجهيزات عُرسها المنتظر. وهذه أم تبحث عن مستلزمات الأطفال والرضع. وغير بعيد عنه تاجر مستحضرات تجميل يشتري بضائع وإكسسوارات. 
اكتسب شهرته من كونه أول وأكبر مكان يبيع كل ما تحتاجه المرأة في الإسكندرية من ملابس ومستحضرات تجميل وحُلي غير ذهبية وغير ذلك. بضائعه مصنوعة بحرفية عالية بأيادٍ مصرية وغير مصرية، وبأذواق مصرية وشامية وهندية وأفريقية، ليشكل فرصة عمل للكثير من الشباب.  
وللسوق أو "الزنقة" كما يطلق عليه أهالي الإسكندرية حالياً أكثر من اسم، منها "سوق المغاربة"، وذلك لأسباب تاريخية تعود إلى بداية نشأته قبل أكثر من مائة عام. وذاع صيته كثيراً بعدما ارتبط باسم أشهر امرأتين بعالم الجريمة، "ريا وسكينة"، وهما اللتان كانتا تستدرجان ضحاياهما من النساء من داخل السوق إلى منزلهما في منطقة اللبان، أحد أشهر الأحياء القديمة في الإسكندرية، وهو ما جُسِّد في العديد من الأعمال الفنية والسينمائية.
عم عوض الغزالي (86 سنة) أحد أقدم بائعي زنقة الستات وأكبرهم سناً، ويحكي عن 70 سنةً قضاها كاملة بين جانبي السوق. يقول: "على مدار سنوات طويلة، كان أغلب زبائن السوق من الأجنبيات وأهالي دمشق، وعُدّ مزاراً سياحياً أكثر من كونه سوقاً تجارياً"، مضيفاً أن "كبرى الشركات السياحية كانت تضع زيارة "الزنقة" ضمن برامجها للسياح في الإسكندرية، فلم تكن زيارتها أقل أهمية من زيارة قلعة قايتباي وعمود السواري والفنار والمتاحف الكبرى، بل إن السياح كانوا يرونها أكثر جذباً".

أما عضو مجلس الشورى السابق، وأحد القيادات الشعبية بمنطقة المنشية، عبد المنعم عبد العزيز، فيقول إن "المحال تقع وسط المنازل الأثرية العتيقة التي تتميز بجمال تصميمها المعماري". ويشير إلى أن الاسم الحالي يرجع إلى أحد التجار اليهود، وهو أول من افتتح محلاً يدعى "لي ستات"، لكن غُيِّر الاسم مع الوقت، بعدما توافدت عليه العديد من الجنسيات والأطياف عبر مئات السنين.

ويشير إلى أن "ملامح الزنقة تغيرت عما كانت عليه، لكنّ تغيّر وصفه ليس بالأفضل، على الرغم من أن السوق دائماً يشهد إقبالاً كبيراً من المواطنين، ولا سيما النساء من مختلف الأعمار اللواتي يفضلن التسوق والتزود من البضائع والإكسسوارات التي تشتهر بتنوعها ووفرتها".
يتابع: "الزنقة فتحت بيوتاً كثيرة لشباب لم يجدوا عملاً، وفتيات يتيمات وأرامل. وكنا شهوداً على المئات من قصص الاسترزاق التي تولدت بين أزقتها، وكبرت حتى أصبح أصحابها من التجار الأثرياء والمشهورين". 
هاني تهامي، أحد الشباب المترددين على زنقة الستات، لم يجد وظيفة مناسبة تُمكنه من تحقيق ربح يبدأ به حياته، ما دفعه إلى التفكير في العمل في أي تجارة. إلا أن عدم امتلاكه رأس المال حال دون ذلك. يضيف: "مررت صدفة أمام السوق، فوجدت بضائع نسائية تُباع بأسعار زهيدة وأشكال وألوان وجودة عالية. قررت بدء التجربة واعتمدت على البيع لعائلتي ومعارف والدتي وشقيقاتي من النساء والفتيات. وما إن بدأت العمل حتى تزايدت الطلبات، وتسارعت دورة رأس المال، وتمكنت من تحقيق أرباح جيدة".

ويلفت إلى أن "حاله حال الكثير من الشبان تجار السوق، بدأ من الصفر تقريباً، إلا أن النهايات تتنوع بين شاب أصبح يملك قوت يومه من العمل في شراء مستلزمات النساء بسعر الجملة وبيعها بسعر التجزئة، وبين آخر تمكن من توسيع دائرة عمله ليصبح موزعاً على المحال التجارية في المناطق المختلفة، وثالث استأجر محلاً لحسابه الخاص ليعرض فيه بضائع الزنقة التي تجذب أي سيدة بصرف النظر عن مستواها المالي والاجتماعي".
تاريخياً، يقول مدرس التاريخ الحديث والمعاصر إسلام عاصم، إن "زنقة الستات أحد أقدم أسواق الإسكندرية وأشهرها، ويعود تاريخها إلى عهد الحملة الفرنسية على مصر في نهايات القرن الـ19. يضيف: "التجار المغاربة واليهود هم أوائل من أسسوا زنقة الستات. لذلك، أطلق عليها المصريون اسم سوق المغاربة لسنوات طويلة، وعملوا على بيع سجاد وأقمشة حريرية من أفضل وأندر الأنواع في العالم".

بيئة

التحديثات الحية

تطوير حدائق المنتزه بالإسكندرية يدمر الذكريات ويضاعف الكلفة

يتابع: "بعد ثورة يوليو 1952، اضطر أغلب هؤلاء التجار إلى الرحيل عن مصر، وتملك المصريون المحال. فتغير شكل السوق، ودخلت عليه الكثير من التعديلات في أنواع البضائع وأساليب البيع والأسعار، واختفى التنوع الثقافي الذي اشتهرت به الزنقة، لتصبح سوقاً مصرياً خالصاً بنكهة تراثية متعددة الثقافات والأعراق".

ويشير إلى أن "الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي ترك أثراً واضحاً على الزنقة، وتحولت إلى متجر لبيع كل أشكال وأنواع البضائع المستوردة الخاصة بالنساء، كالملابس ومستحضرات التجميل وحتى أدوات المنزل والأثاث واحتياجات الرضع والأطفال ووصفات النساء العلاجية وغير ذلك.

يضيف: "على الرغم من الأوضاع الاقتصادية الصعبة، لم تفقد الزنقة رونقها، ولا جذبها للنساء، ولا تزال تتمتع بعشق أهالي الإسكندرية. حتى إن الأمهات يصطحبن بناتهن للمشي في أزقتها والتفرج على البضائع، حتى وإن لم يكنّ ينوين الشراء. هذه نزهة قبل أن تكون سوقاً ومكاناً يحفظ الذكريات، ويروي الكثير من المشاهد التاريخية".