بعد أكثر من تسع سنوات على تعاقب سيطرة التنظيمات الدينية المتطرّفة على مناطق الشمال الغربي من سورية، يظهر جلياً فرض تلك التنظيمات حالة من الانغلاق وتدخّلها في شؤون الأفراد الخاصة، بدءاً من نوع اللباس، وصولاً إلى أساليب التعامل في ما بينهم، بالإضافة إلى الفصل بين الجنسَين في المدارس والعمل وغيرها من تدخّلات. كذلك طرأت تغيّرات كبيرة على العادات الاجتماعية، لعلّ أبرزها العودة بعادات الخطبة والزواج إلى تقاليد قديمة تجاوزها المجتمع السوري منذ أكثر من خمسين عاماً، من قبيل تزويج الفتيات بأعمار صغيرة أو من دون الأخذ برأي أخريات.
ريما مناع البالغة من العمر 16 عاماً من مدينة إدلب، تخبر "العربي الجديد": "تقدّم أحد الشبّان لخطبتي، وهو نازح من مدينة أريحا، بعدما تعرّفت والدته إليّ في الجامع الذي كنت أتردّد إليه مع فتيات أخريات لحفظ القرآن، وذلك بعد انقطاعي عن التعليم بسبب سوء الأوضاع في المنطقة". تضيف أنّ "والدة العريس أعلمت معلّمة القرآن بأنّها تبحث عن زوجة لابنها، وطلبت منها مقابلة الفتيات في الحلقة التعليمية كي تختار من بينهنّ عروساً له. وقد وقع الاختيار عليّ".
وتشير ريم إلى أنّه "في البداية، لم أقتنع بهذه الخطبة التقليدية. لكنّ معلمتي التي كنت أثق برأيها أقنعتني بأنّ أجدادنا كانوا يعمدون إلى ذلك. وقد تمّت الخطوبة بيننا قبل ثلاثة أشهر، ونحن الآن نجهّز مستلزمات الزواج، وكلّ شيء يسير على ما يرام ومن دون أيّ خلاف"، آملة أن "يكون الزواج ناجحاً".
من جهتها، تروي حنين البالغة من العمر 19 عاماً، مفضّلة عدم الكشف عن كنيتها لأسباب خاصة، وهي نازحة من مدينة التمانعة في ريف معرّة النعمان، تفاصيل زواجها الذي أُجبرت عليه. وتقول: "بعد تكرّر النزوح والوضع الاقتصادي السيئ الذي نعيشه، قرّر والدي تزويجي شاباً نازحاً من مدينة الزبداني بعدما هُجّر منها واستقرّ بالقرب من منزلنا في مدينة إدلب. فالشاب كان يبحث عن زوجة لتكوين أسرة جديدة بعد فقدانه أسرته الأولى في أثناء القصف على منطقته".
تضيف حنين: "لم أستطع رفض هذا الزواج، لأنّ والدي أعطى كلمة للشاب أمام أصدقائه، من دون العودة إليّ لأخذ رأيي أو استشارتي في ما يتعلّق باختيار شريك حياتي، إذ إنّ رأيه هو الصواب ولا يجب عليّ مخالفته الرأي، فباستطاعته اختيار الشريك المناسب لي". وتشير حنين إلى أنّه "يصرّ على رأيه، على الرغم من أنّ زواجه بوالدتي، مثلما تروي هي لنا، كان من خلال اختياره هو لها وإصراره عليها قبل أكثر من عشرين عاماً، فيما يحاول اليوم فرض عريس عليّ من دون حتى الأخذ برأيي".
أمّا مصطفى علداني، وهو نازح من ريف حمص، فيخبر "العربي الجديد": "زوّجت ابنتي حنان البالغة من العمر 14 عاماً أحد المهاجرين الذي كان يسكن في حيّنا، ولم أكن أعرف عنه إلا أنّه كان عضواً في أحد فصائل القتال وأنّه يريد الزواج بفتاة صغيرة في السنّ، بحسب ما نقل عنه أحد أصدقائه". يضيف مصطفى: "لم أتوقّع يوماً أنّ اختلاف البيئة واختلاف الجنسية سيكونان سبباً في طلاق ابنتي وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من عمرها. فبعد مرور أكثر من سنة ونصف على زواجها، ازدادت الخلافات بينها وبين زوجها، واتّضح أنّه يتعاطى المخدّرات، الأمر الذي انعكس على نفسيتها، خصوصاً أنّها أنجبت منه وصارت لديها مسؤوليتها تجاه الطفل، علماً أنّها كانت لا تزال طفلة وفي حاجة إلى رعايتي ورعاية والدتها، وهو الأمر الذي أدركته بعد فوات الأوان".
في سياق متصل، يقول المتخصص الاجتماعي عادل قطف لـ"العربي الجديد" إنّ "طول أمد الحرب السورية التي نتجت منها حركة نزوح كبيرة طاولت ملايين السوريين داخلياً، أدّى إلى اكتظاظ سكاني كبير في مناطق شمال غربي سورية، الأمر الذي انعكس سلباً على الحالة الاقتصادية هناك، في ظلّ استمرار القصف الممنهج للنظام وغياب أيّ حلول سياسية، بالإضافة إلى انعدام فرص العمل وانتشار البطالة بنسبة كبيرة".
يضيف قطف أنّ "هذه الأسباب وغيرها دفعت آباءً كثيرين في تلك المناطق إلى اللجوء إلى عادات وتقاليد مسيئة كانت متّبعة سابقاً في مجال الزواج، لعلّ أبرزها تزويج الأب ابنته من خلال كلام يأتي به في خلال جلسة مع الأقارب أو الأصدقاء تنتهي بزواج غير متكافئ بين الطرفَين، أو من خلال منع الفتاة من الزواج إلا أحد أبناء عمومتها، حتى لو كانوا غير مؤهّلين". ويشير قطف إلى أنّ ذلك يأتي إلى جانب "انتشار الزواج المبكّر بين فتيات لم يتجاوزنَ مرحلة الطفولة، فيجدن أنفسهنّ مسؤولات عن زوج وأسرة".