سجون الانتحار... الموت يراود "مظاليم" مصر
قد لا يكون ما تنشره تقارير حقوقية في مصر عن حالات الانتحار في السجون إلا القليل من وقائع الحوادث المغلّفة باليأس والشعور بالظلم.
خلال 48 ساعة، نفذ الناشطان السياسيان عبد الرحمن طارق الملقب بـ "موكا" ومحمد إبراهيم الملقب بـ "أكسجين" محاولتي انتحار داخل السجن في مصر، ما يشير إلى أن فكرة الانتحار تراود معتقلين كُثراً اليوم في ظل نظام عدالة بائس. وحكايتا "موكا" و"أكسجين" نجحتا في الخروج إلى العلن، وجرى عرضهما على الرأي العام لأنهما تتعلقان بناشطَين سياسيَين بارزين يتولى الدفاع عنهما محامون وحقوقيون ومنظمات ذات حضور مهم في المجتمع المدني. لكن هناك عشرات غيرهما وربما مئات لم تروَ قصص محاولتهم الانتحار للرأي العام. وقد نجح بعضها وتسبب في وفيات، في حين باءت أخرى بالفشل.
في إحدى قصص محاولات الانتحار التي لم يعرف الرأي العام تفاصيلها ويطلع عليه، نقل تقرير أصدرته الشبكة المصرية لحقوق الإنسان في منتصف يوليو/ تموز الماضي، عن أن معتقلاً لم تكشف هويته حاول الانتحار تحت ضغط الانتهاكات القاسية والتنكيل المتواصل الذي تعرض له مع معتقلين آخرين في سجن العقرب 2 الخاضع لحراسة مشددة، وأيضاً بسبب تدابير السجن القاسية داخل جدران هذا السجن الذي يعد أحد أسوأ معتقلات البلاد. وأوضحت الشبكة أن السجين الذي نفذ محاولة الانتحار تناول كمية كبيرة من أقراص أدوية دفعة واحدة، لكن زملاءه تدخلوا لإنقاذه في اللحظة الأخيرة بعدما استدعوا الحراس الذين أسعفوه ونقلوه إلى المستشفى.
تتعدد القصص عن محاولات انتحار نفذها معتقلون لم تكشف هويتهم وتجاهلتهم تقارير حقوقية أخرى، وبينها لنشطاء سياسيين، أحدهم اعتقل وسجن مرتين في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي. وروى هذا الناشط بنفسه تفاصيل محاولته الانتحار داخل السجن، والتي فشلت لأنه كان في زنزانة واحدة مع معتقلين سياسيين إسلاميين تصدوا للمحاولة، ومارسوا ضغوطاً دينية ونفسية لدفعه إلى التراجع.
وكشف سجين سياسي سابق آخر أنه فكر بالانتحار مرات بسبب إحساسه بالظلم والعجز، والإحساس بالندم والتقصير في حق أسرته وعائلته التي دفعت معه ثمناً مكلفاً لنشاطه السياسي. كما وثقت الشبكة المصرية لحقوق الإنسان إقدام الطفل عبد الله بومدين نصر الله عماشة (15 سنة) على محاولة الانتحار خلال شهر رمضان الأخير، بعدما استعد لتناول عدد كبير من أقراص دواء بأمل التخلص من حياته، خصوصاً بعدما حصل على حكم إخلاء سبيل لم يُنفذ بسبب تعنّت جهاز الأمن الوطني بالعريش في شمال سيناء، ما جعله ضحية عملية إخفاء قسري أبعده ثلاث سنوات عن عائلته.
من جهته، حاول سائق سيارة الأجرة الذي يحمل الجنسيتين المصرية والأميركية، خالد حسن، الانتحار داخل زنزانته في سجن طرة نهاية تموز/ يوليو 2019، عبر قطع شريان معصمه وتناول كميات كبيرة من حبوب ارتفاع ضغط الدم، لكن سلطات السجن نقلته إلى مستشفى استقبال سجن طرة بعدما عثر عليه السجناء في حال فقدان الوعي.
وفي العام ذاته، أكد مركز "النديم لتأهل ضحايا العنف والتعذيب" (منظمة مجتمع مدني مصرية)، أن خالد حسن لم يكن أول من يحاول تنفيذ محاولة انتحار، بل الرقم 5 في سجن طرة تحديداً. إلى ذلك، انتحر المدرس في جامعة الأزهر المحكوم عليه بالسجن المشدد لمدة 10 سنوات، أسامة مراد، في 22 إبريل/ نيسان 2019 داخل العنبر "ألف" بسجن استقبال طرة، بعدما خضع لرغبة شديدة في التخلص من العذاب النفسي والاكتئاب الحاد الذي تعرض إليه في السجن. وقد نفذ فعلته عبر "ذبح" نفسه باستخدام آلة حادة لإنهاء معاناته من المرض النفسي الذي رافقه فترة زمنية طويلة، ولم تستجب إدارة السجن يوماً لمطالب النظر في حالته.
أكدت دراسة بعنوان "الآثار والاضطرابات النفسية للإيداع بالسجون" نشرتها مؤسسة "ابدأ" للعدالة وحقوق الإنسان عام 2015، أن "السجن يمثل عبئاً نفسياً على شخصيات السجناء الذين يخضعون لضغوط نفسية تختلف تأثيراتها حسب قدرتهم على تحملها. وتشكل هذه البيئة الضاغطة مع الظروف النفسية والاجتماعية والاقتصادية الخاصة بالسجين عوامل متراكمة وبيئة خصبة للإصابة بأشكال متنوعة من الاضطرابات النفسية التي تختلف حدتها من شخص لآخر، ما يخضع شخصيات السجناء لتغييرات نفسية متعددة قد لا يمكن التعامل مع تأثيراتها السلبية واحتواؤها".
وأشارت الدراسة نفسها إلى أن "نوبات الاكتئاب تبلغ ذروتها بمحاولة بعض السجناء الانتحار عبر قطع شرايين أيديهم بآلات حادة أو إلقاء أنفسهم من أماكن مرتفعة. وقد يقدمون على الانتحار بسبب شعورهم بأن أحكام سجنهم طويلة، وأن عمرهم لن يمتد فترة كافية لرؤية الحياة خارج السجن، فيرون أن بقاءهم أحياء عبء لا طائل منه".
وفي السياق لا بد من الإشارة إلى قصة الشاب شادي حبش، مخرج أغنية "بلحة" الذي توفي داخل زنزانته في الثاني من مايو/ أيار 2020، والذي لمّحت النيابة العامة في بيان أصدرته حينها، استناداً إلى ما زعمت أنها شهادات من رفقاء له في الزنزانة، إلى أنه "انتحر عبر شرب جرعات من الكحول خلطها بمشروبات غازية، ما أحدث تغييرات في مزاجه العام وتصرفاته".
الحقيقة أنه لا يمكن فصل الانتحار داخل السجون ومقار الاحتجاز المختلفة عن العالم الخارجي المليء بقصص محاولات الانتحار، والتي كشفت تقارير أخيرة أن عددها كبير. وكان تقرير أصدرته منظمة الصحة العالمية وضع مصر على رأس الدول العربية على صعيد عدد محاولات الانتحار المنفذة عام 2016، والتي بلغ عددها 3799، توزعت على 3095 رجلاً و704 نساء، أي أن حوالى خمسة رجال ينتحرون في مقابل امرأة واحدة. وأيضاً، أوردت تقارير لمنظمة الصحة العالمية أن الاضطرابات النفسية أو العصبية تصيب واحداً بين كل أربعة أشخاص في المراحل العمرية والحياتية، وأن هناك أكثر من 10.35 ملايين سجين في العالم، مشيرة إلى أن "معدل الاعتلال النفسي بين نزلاء السجون مرتفع في شكل ملحوظ وغير متكافئ مقارنة بانتشاره في أماكن أخرى، علماً أن بحوثاً تشير إلى أن حوالي واحد من بين كل سبعة سجناء يعاني من اضطرابات نفسية خطرة".
بين الشكاوى من الظروف غير الإنسانية السائدة التي تشهدها زنزانات سجن العقرب 2، والتي أوردتها الشبكة المصرية لحقوق الإنسان، منع إدارته إدخال أدوية إلى المعتقلين، وحرمانهم من تلقي أي نوع من العلاج والذي لا يتوافر أصلاً في العيادة الداخلية. وتسبب ذلك في انتكاسات صحية لسجناء يعانون من أمراض مزمنة، وآخرين كبار في السن.
تابع آخر أخبار العربي الجديد عبر Google News
