يتجوّل سعيد الحسون بين عربات بيع الخضار المنتشرة في سوق مدينة إدلب (شمال سورية)، ويقلب حبات الباذنجان المعروضة على إحدى العربات ويبحث عن أصغرها حجماً ليستخدمها في صنع مؤونة المكدوس لهذا العام. والمكدوس طعام تشتهر به سورية، ويُصنع عادةً في موسم خاص يبدأ مع نهاية شهر سبتمبر/ أيلول ويمتد حتى شهر أكتوبر/ تشرين الأول، بالتوازي مع توفر الباذنجان الخاص لصنعه. ولإعداد المكدوس، يخلط الجوز والثوم والفلفل الأحمر والقليل من الملح، وتوضع الحشوة داخل حبات الباذنجان ثم توضع في وعاء زجاجي (مرطبان) ويغمر بالزيت الصافي ويوضع بعيداً عن أشعة الشمس المباشرة. وبعد مرور ثلاثة أيام إلى أسبوع (بحسب دفء الطقس) يكون المكدوس جاهزاً للأكل.
ويقول الحسون لـ "العربي الجديد" إنه بحث طويلاً على أمل العثور على السعر الأرخص. فالتكاليف هذا العام ستكون مرتفعة ولا حلّ سوى التخفيف من الجودة المعتادة. والمكدوس من الأكلات الشعبية التي لم يعتد السوريون الاستغناء عنها في فصل الشتاء، إذ يصنع ويخزن في فصل الصيف بهدف تناوله في فصل الشتاء. يضيف أن انخفاض قيمة الليرة التركية (يساوي الدولار الواحد 27 ليرة تركية) أدى إلى ارتفاع الأسعار، ما سيجبره على إعداد نصف كمية المؤونة المعتادة. ويعتبر الباذنجان أرخص مكونات هذه الأكلة، ويُباع الكيلوغرام الواحد بخمس ليرات تركية، وتحتاج عائلة الحسون إلى 20 كيلوغراماً هذا العام. لكن الكلفة الكبرى تكمن في بقية المكونات، ويحتاج سعيد إلى كيلوغرامين من الجوز بسعر 100 ليرة تركية للكيلوغرام الواحد ومثله من مسحوق الفلفل الأحمر، بالإضافة إلى خمسة كيلوغرامات من الزيت النباتي بسعر 170 ليرة تركية، عدا عن كلفة الأوعية والغاز.
يضيف الحسون: "ستبلغ الكلفة التي سأدفعها لإعداد المكدوس هذا العام نحو 700 ليرة تركية، على الرغم من التخفيضات التي أجريتها على الكمية، وهو مبلغ كبير مقارنة بدخلي الشهري، إذ أتقاضى مائة ليرة في اليوم في مقابل عملي في أحد محال الألبسة في المدينة". يتابع سعيد أن العائلات تحتاج إلى تناول المكدوس شتاء، بالإضافة إلى الملوخية المقددة والبامية، موضحاً أنه سيعتمد خلال فصل الشتاء على شرائها من المحال بكميات قليلة، علماً أنه على يقين أنه سيدفع تكاليف أكثر. إلا أن ضعف الدخل الشهري الذي يتقاضاه يمنعه من شراء كل المواد التي يحتاجها للمؤونة في وقت واحد.
من جهته، يقول عبد الله زيدان، وهو تاجر خضار في سوق إدلب، لـ "العربي الجديد"، إن أسعار الخضار لم ترتفع كثيراً مقارنة بسعر الدولار، لكن الارتفاع الظاهر للمستهلك ناجم عن انخفاض سعر صرف الليرة التركية، في حين بقيت أجور العمال بالليرة التركية ولم تتناسب الزيادات التي طرأت عليها مع انخفاض قيمة الليرة. يضيف أن الحركة الشرائية هذا العام معدمة في الأسواق والكميات التي تباع قليلة بالمقارنة مع الأعوام السابقة. الجميع يشكو من الضائقة المادية وبات البحث عن وجبة اليوم أولى عندهم من تخزين مؤونة الشتاء، في حين يؤجل بعض الأهالي مثل هذه المشاريع قليلاً على أمل انخفاض الأسعار أكثر، علماً أنه يضعف الإقبال على شراء هذه المواد مع اقتراب فصل الشتاء، ويؤثر الطقس البارد على تجفيف الخضار.
بدوره، يقول محمد العمر لـ "العربي الجديد": "لم أشتر هذا العام أي صنف وقررت التخلي عن المؤونة. الدخل الذي أتقاضاه من عملي كحارس ليلي لا يكفي لسد رمق عائلتي، ويستحيل أن أوفر أموالاً إضافية لشراء المؤونة، ما دفعني للاستغناء عنها. وفي حال اضطررت لاقتناء أحد الأصناف في فصل الشتاء، يمكنني شراء كمية قليلة من المحال المنتشرة في إدلب".
من جهة أخرى، تجد بعض العائلات السورية بقدوم فصل الصيف فرصة عمل ومصدر دخل لها من خلال عملها في تجهيز هذه المؤونة في مقابل أجر تتفق عليه مع صاحبها أو من خلال الاتجار بها وبيعها. وتقول أم زاهر، وهي سيدة من ريف دمشق وتقيم في إدلب لـ "العربي الجديد"، إنها تعمل مع عائلتها على تجهيز المؤونة من خلال "حفر الباذنجان وتوريق الملوخية وإعداد المكدوس". وتتقاضى على كل سلعة أجراً مختلفاً بحسب الجهد الذي تبذله.
تضيف أم زاهر أن بعض العائلات لديها وضع صحي خاص أو أنها لا تملك الوقت الكافي لهذا العمل، نتيجة التزامها بعمل ما، لتتولى هذا العمل في مقابل بدل مادي. وشكل هذا العمل مورد جيد للعائلة خلال فصل الصيف، علماً أنها تلجأ في بعض الأوقات إلى شراء الخضار على نفقتها الخاصة وتجفيفها ثم بيعها للمحال التجارية.
في مناطق سيطرة النظام السوري، ليس الحال أفضل، إذ إن انهيار سعر صرف الليرة ووصولها لأسعار غير مسبوقة أديا إلى امتناع الأهالي عن شراء الكثير من المواد. ويقول جميل الراجي، وهو مهندس من ريف حماه، لـ "العربي الجديد": "على الرغم من الزيادة الأخيرة على رواتب العاملين في الدولة، إلا أن أوضاعهم الاقتصادية تدهورت بشكل أكبر. فجميع المواد ارتفعت أسعارها بنسب لا تقارن مع الزيادة". يضيف: "سعر كيلوغرام الملوخية والباذنجان اليوم ألف ليرة سورية. والعائلة المتوسطة تحتاج بالحد الأدنى إلى 50 كيلوغراماً من الملوخية ومثلها من الباذنجان لإعداد المحاشي في الشتاء، ما يعني أن الموظف سيدفع نصف راتبه ثمن هذه المواد، والراتب أساساً لا يكفي لتأمين وجبات الغداء اليومية".
يتابع جميل أن المكدوس لم يعد على قوائم موائد السوريين منذ زمن، وبات حكراً على ميسوري الحال. لا يُعقل أن يدفع ما يعادل راتب شهرين ثمن مؤونة المكدوس. أما المدرّسة أسماء اليوسف، فتقول لـ "العربي الجديد" إن "غالبية من أعرفهم يعتمدون على وظيفتين لتأمين أدنى مقومات الحياة. مع ذلك، امتنع كثيرون عن شراء المؤونة بسبب عجزهم، فيما اشترى آخرون نصف الكمية على أمل شراء ما تبقى من الحاجة نهاية الصيف". تضيف أسماء: "يترافق موسم المؤونة مع التجهيز للمدارس وقدوم فصل الشتاء، وهي ثلاثة مواسم مرهقة للسوريين، ما يجبر الأهالي على ترتيب أولوياتهم واختيار الأكثر حاجة والتخلي عن البقية، بينما لا تزال قلة قليلة قادرة على التماشي مع هذه الأوضاع".
وتوارث السوريون عادة تقديد الخضار من الصيف وتخزينها للشتاء. وتعتبر الخضار من المواد الأرخص سعراً في سورية خلال فصل الصيف، إلا أن ضعف الأحوال الاقتصادية دفع كثيرين إلى التخلي عن الاحتياجات الأساسية التي اعتادوا عليها.