تشكو السورية أميرة دعبول (40 سنة) عدم قدرة ابنتها (9 سنوات) على تعلّم اللغة العربية عبر الدروس عن بعد أن أمضت ثمانية أشهر ضمن دروس تعليمية للأطفال السوريين في دول عدة، غالبيتهم هاجروا بعد الثورة السورية في عام 2011، وأحس أهلهم بضياع لغتهم العربية.
تؤكد دعبول لـ"العربي الجديد"، أن ابنتها "متفوقة في اللغة التركية، لكنها لا تجيد اللغة العربية رغم أنني أقتطع من دخل الأسرة نحو 200 ليرة تركية شهرياً لتعليمها العربية عن بعد. المدارس السورية في تركيا، تم إغلاقها قبل 5 سنوات، ولا يوجد سبيل للتعلم سوى عبر المدارس التركية التي تهمل اللغة العربية، باستثناء مدارس (إمام خطيب) التي تخصص حصصا قليلة للغة العربية".
لا تنكر السيدة السورية إهمال الأهل في تعليم أولادهم اللغة العربية، وتؤكد أنها تجد صعوبة كبيرة في تعليم طفلتها الكتابة والقراءة، وتكتفي بالتعليم الشفوي عبر ملاحقة الأولاد في المنزل للتكلم باللغة العربية. "لكنهم يستسهلون التحدث بالتركية".
يبلغ عدد الطلاب السوريين في المدارس التركية نحو 730 ألف طفل، وهؤلاء بحسب تقارير المديرية العامة للتعليم التركية، يشكلون ما نسبته 65 في المائة من الأطفال السوريين في سن الدراسة، بينما يحرم 35 في المائة من الأطفال السوريين في تركيا من التعليم، ما يعني أكثر من 393 ألف طفل.
وتتراوح أسباب حرمان تلك الأعداد الكبيرة من التعليم، بحسب المعلمة سهام أصلان، بين عدم قدرة الأهل مالياً على تعليمهم، وتشغيل الأطفال للمساعدة في توفير نفقات الأسرة، خاصة من هم فوق 15 سنة، ويترك بعض الطلاب المدارس بذريعة تعرضهم للتنمر، خاصة خلال السنوات الأخيرة.
وتقول المعلمة التركية لـ"العربي الجديد"، إن "دائرة التعليم تتابع التلاميذ السوريين المتسربين من المدارس، وتحاول إعادتهم من خلال تكليف فرق من المعلمين والمرشدين النفسيين بزيارة المنازل لإقناع أهل التلاميذ بإعادتهم، وتقديم مغريات تشمل راتبا شهريا للتلميذ قيمته نحو 40 ليرة تركية، والتلويح أحياناً بتوقيف كارت الهلال الأحمر إن لم يعد الأهل الأطفال إلى المدارس، وهي مساعدة أممية للأسر السورية قيمتها نحو 150 ليرة للشخص".
أغلقت مراكز التعليم السورية المؤقتة في تركيا منذ عام 2017
وحول تدريس اللغة العربية ضمن المناهج التركية، خاصة في مناطق كثافة السوريين، تقول أصلان: "قررت وزارة التعليم التركية إضافة درس اللغة العربية إلى برنامج طلاب الصفوف الثاني والثالث والرابع من المرحلة الابتدائية اعتباراً من العام الدراسي 2016- 2017، كما أن مدارس (إمام خطيب) تدرس أربع حصص للغة العربية أسبوعياً، إضافة إلى تدريس مادة التربية الدينية التي يتخللها اللغة العربية". معترفة بأن توجه بلادها إلى تعليم اللغات الأخرى غير التركية "لا يزال محدوداً، فاللغة الإنكليزية للمرحلة الابتدائية درس واحد أسبوعياً".
ولم تنعكس حصص اللغة العربية القليلة بالمدارس التركية على الطلاب السوريين، لاسيما المولودون في تركيا، بعد أن باتت التركية لغة تعليمهم وحياتهم اليومية، وتقول الطالبة السورية مريم التي تدرس في مدرسة "بوصا أورطا أووكول" بمنطقة زيتين بورنو بإسطنبول، لـ"العربي الجديد"، إنها نسيت الكتابة باللغة العربية، لأنها لم تعد تستخدمها، مضيفة: "رغبتي في تعلم العربية تراجعت مع زيادة تلاشي الأمل في العودة إلى سورية بعد الحصول على الجنسية التركية، وزملائي بالمدرسة لا يتقبلون كوني سورية، وبعضهم يعتبرني أجنبية رغم إجادتي التركية وحملي الجنسية".
ويمتد الضعف في اللغة العربية إلى كثير ممن ولدوا في سورية، وبعضهم تلقى تعليمه الابتدائي هناك باللغة العربية قبل اللجوء إلى تركيا، والغالبية منهم لا يجيدون اللغة كتابة وقراءة، ويعانون من جهل شبه كامل بقواعدها.
يدرس الطالب الجامعي محمد (19 سنة) علوم الكمبيوتر "إنفورماتيك" في جامعة استينيا بإسطنبول، وهو يؤكد ضعفه باللغة العربية، كما أنه يتوجه إلى تعلم اللغة الإنكليزية "لأنها لغة عالمية، وستفيدني في تخصصي"، في حين لا ضرورة لإتقان العربية. ويضيف: "تعيش أسرتي منذ تسع سنوات في تركيا، وتعلم اللغة التركية أضعف لغتي الأم، لكني ما زلت أتكلم العربية كونها لغة البيت، فأبواي لا يتقنان التركية جيداً، لكني لا أستخدم العربية خارج المنزل، فجميع أصدقائي أتراك، ودراستي وعلاقاتي كلها باللغة التركية".
35 في المائة من الأطفال السوريين في تركيا محرومون من التعليم
وتؤكد المعلمة السورية منار عبود لـ"العربي الجديد"، أن "الأطفال السوريين في تركيا فقدوا الأمل بتعلم العربية منذ إغلاق مراكز التعليم السورية المؤقتة في عام 2017، وفصل المعلمين السوريين بعد ذلك من المدارس التركية ، والذين كان عددهم نحو 11 ألف معلم، مع اتباع سياسة دمج التلاميذ السوريين في المجتمع التركي. المشكلة كانت أوضح مع طلاب الصفوف الأول والثاني والثالث، كما أن التنمر في السنوات الأخيرة زاد من غربة الطلاب عن لغتهم الأم، ولكن الأسر تتحمل مسؤولية كبيرة أيضاً. دورات تحفيظ القرآن منتشرة في تركيا، لكنها تعلم الأطفال القرآن من دون أن يفهوا ما يقولون، أو يتقنوا الكتابة والقراءة بالعربية".
سألنا الباحث المتخصص باللغة العربية بمركز "حرمون" في إسطنبول، حمدي مصطفى، عن أسباب تراجع إتقان العربية لدى الأطفال السوريين في تركيا، فقال إن "الأسباب عديدة، وتصعب الإحاطة بها، لكن أهمّها هو عدم وجود مناهج مترابطة باللغة العربية، فالتعليم في المدارس باللغة التركية في كلّ المواد، وفي جميع المراحل الدراسية. التراكمية والاستمرار شرطان أساسيان في نظريات التعلّم، واللغة العربية ككل اللغات، تنمو وترسخ وتزدهر بكثرة الممارسة والمطالعة والتعامل، وهذه الموجبات تكاد تكون منعدمة عند قسم كبير من السوريين في تركيا، أضف إلى ذلك الهوّة بين اللغة العربية الفصيحة والعامية المحكية من حيث النطق والكتابة، إذ هناك صعوبة في إتقانها حتى في الدول العربية، وبذلك تزداد صعوبة إتقان القراءة والكتابة، ويزداد الإحجام عن اكتسابها والزهد في طلبها".
ويضيف مصطفى أن من جملة الأسباب "إحجام الطلاب وأهاليهم عن تعلّم اللغة العربية على حساب تقويتهم اللغة التركية التي هي مدار القياس والتقويم في الامتحانات وشهادات التحصيل العلمي، وحالياً معظم الطلاب يهتمون بالشهادة العلمية لا بالقيمة المعنوية للعلوم والمعارف".
وحول مسؤولية الدولة التركية عن تراجع اللغة العربية عبر عدم إدراج حصص لها، وكذا مسؤولية الأسر، يوضح: "الحكومة التركية كحال كل حكومات الدول الأجنبية معنيّة بتعزيز التعليم بلغتها الرسمية، على أنها افتتحت في وقت سابق بالتعاون مع منظمة (يونيسف) مدارس كثيرة تعلّم المواد باللغة العربية، ثم توقفت تلك المدارس لجملة من الأسباب، أهمها عدم إمكانية الاستمرار فيها إلى المراحل الجامعية، إذ يكون التعليم في معظم الكليات باللغة التركية، فضلًا عن حساسية إنشاء مدارس تعلّم المواد باللغة العربية. مع ذلك، فإن تركيا تضم مدارس (إمام خطيب)، وفيها دروس للغة العربية، لكنها تظلّ أقل من أن تسمى دروساً في اللغة، والبديل هو التسجيل في مدارس عربية خاصة، وهذا خارج إمكانات كثير من الأسر السورية".
وحول رأيه بماذا سيحل بهذا الجيل مستقبلاً على صعيد لغته الأم، يؤكد حمدي مصطفى أن "مستقبل الأجيال المقبلة من السوريين على صعيد اللغة العربية غير مُبشّر، وليس هذا في تركيا وحدها، بل في كل مكان يعيشون فيه، حتى في بعض مناطق الداخل السوري على اختلاف القوى المتحكمة، لكن تركيا تضم منافذ عديدة يمكن أن تعوّض الطالب، منها تعليم قراءة القرآن، وهو متاح مجاناً في كثير من المساجد والأوقاف، لكنه يقتصر على الجانب الديني فقط، ومعظم الطلاب لا يعرفون معاني ما يتلقونه، ولا دلالاته، وبذلك تغيب كثير من وظائف اللغة. المسؤولية باتت كبيرة، والأعباء ثقيلة على الأسرة، لأنها أكثر العارفين بقيمة اللغة العربية، كونها اللغة الأم، فضلاً عن كونها عنوان الهوية، ولا أُخفي قلقي من المستقبل ما دام الوضع السوري يراوح مكانه".